بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
يخضع الفكر السياسي للحركات الإسلامية في الوطن العربي لعوامل نشأتها ولدوافع ظهورها، وكذا الظروف التي هيأت بروزها. كما شكل خطاب هذه الحركات لفترة زمنية البديل، في نظرها، للتناقضات والمشاكل الإيديولوجية والسياسية للمعارضة الموجودة، كما كان نتاج تراجع شعبية التيار اليساري، وكذا عجز مسلسل البناء داخل الدولة الحديثة الذي استمر على نهج النمط الاقتصادي والاجتماعي الموروث عن الحقبة الاستعمارية. فالتجأت هذه الحركات إلى إعادة طرح سؤال الهوية الإسلامية الذي يوجد تعبيره في العودة لاستنهاض مشروع الدولة الإسلامية.
بدأ الجدال منذ بداية القرن الماضي حين حاول بعض المفكرين طرح أسئلة وأفكار حول الواقع السياسي، الديني، الاجتماعي والفكري للمجتمع العربي المعاصر. فكان السّجال قوياً بين قدماء ومجددين، أناروا الطريق نحو تأسيس أرضية فكرية خصبة، فكان علي عبد الرازق و طه حسين و مصطفى صادق الرافعي و محمد عبده و محمد رشيد رضا و آخرون رواد تلك المرحلة بامتياز.
برز هؤلاء المجدّدون بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الاتجاه التحديثي كان قد بدأ قبل الحرب. اعتنقت هذه النخبة نمطاً غربياً في التفكير استهدف تحرير العقل من الأسلوب التقليدي في النقد والفهم والتحليل وعارضت وجهة نظر نخبة القدماء التي دافعت عن الدين واعتبرته حلاً لمشاكل الواقع العربي من كل الجوانب السياسية والخُلقية والإجتماعية.
لذلك مثّلت ثنائية تداخل الديني والسياسي محور الإطار الفكري وتخيل الفعل السياسي عند الحركات الإسلامية التي برزت فيما بعد، خصوصاً وأن المرجعية الدينية تعتبر أحد الأسس المركزية التي تُميّز هذه الحركات عن غيرها. لهذا فالبحث العلمي في مكنون الخطاب السياسي لدى الحركات الإسلامية، يقتضي في نظري الإنطلاق أولاً من المكانة التي يمثلها الجانب الديني في مرجعية هذه الحركات ثم من درجة حضور الوعي الديني في استلهام مقولاتها الفكرية السياسية .
يبدو للبعض أنّ فرضية فصل الدين عن حركات الإسلام السياسي مغرية، لأنها تمكّن من سحب البساط المزيّف من تحت أقدام أولئك الذين يهدفون إلى السيطرة على المعتقد الديني للمجتمع بنوع من نزوة التملّك القريبة لسلطة الفقهاء بدلاً من سلطة الدولة المدنية.
فعندما تبني حركة سياسية وجودها انطلاقاً من الدّين، فهي تتمكن من السيطرة على امتياز ثقافي اجتماعي ديني يجعلها في وضعية المالك للرأسمال الديني الثقافي والاجتماعي الشعبي، وبالتالي فهي بشكل أو بآخر تشبه الكنيسة التي تمنح صفة المؤمن والكافر وصكوك الغفران، بمعنى محاصرة الآخر من نفس الدين.
يشكّل النزوع الأيديولوجي بشقّيه الديني والسياسي الركيزة الأساسية التي قامت عليها حركات الإسلام السياسي عبر التاريخ، حيث تمكنت الإيديولوجيا من تحقيق تقدّم نوعي على المستويين: الديني والسياسي، ومن ثم الدخول في مرحلة السعي نحو فرض نفسها، حيث تمتلك في تلك الحالة نسقاً جديداً يحتكر الحقيقة المطلقة، ويسعى لفرض سطوته وهيمنته على النسق التقليدي الذي يرتكز في أغلب الأحيان على مرجعية الإرث الثقافي، وكذلك السيطرة على النسق الآخر الذي يحاول التحرّر من كل ما هو موروث، مما يؤدي إلى رفع مستوى احتكار الحقيقة المطلقة، فتحاول الإيديولوجيا في صراعها الداخلي إخضاع كلا النّسقين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً