بقلم الدكتور المهندس محمد ملحم*
تمهيد
تُعد الحرب التطورية بين الخفاش وفرائسه من الحشرات أحد أفضل الأمثلة المعروفة عن “سباق التسلح” التطوري بين المفترس والفريسة. طورت العديد من أنواع العث آذاناً حساسة للموجات فوق الصوتية نتيجة لضغط الافتراس الذي تمارسه الخفافيش التي تعمل بالصدى. ترسل الخفافيش أمواجاً فوق صوتيّة عالية جداً كنداءات صدى لتحديد موقع الفريسة حيث يصل التردد عند بعض الأنواع إلى 212 kHz، بالمقابل طورت هذه الحشرات آليات ميكانيكية فريدة لضبط حساسية التردد وتتبّع التغيرات الطيفية في نداءات الخفافيش أثناء الصيد. عُرف نوع من العث يُطلق عليه عث أمريكا الشمالية الغجرية يستطيع سماع ترددات تصل إلى 150 kHz، بينما طورت عثة الشمع الأكبر wax moth (انظر الشكل (1)) زوجاً من أجهزة السمع الطبلي لتستجيب لترددات صوتية تصل إلى أكثر من 300 kHz [1]، ولهذه الحشرة أوسع نطاق سمعي موجود في مملكة الحيوانات حتى الدرافيل المعروفة بأنها حادة السمع فإنها تتوقف عند 160 kHz.
وفي دراسة الاستجابة السمعية لعثة الشمع الأكبر تم استخدام طريقتين تجريبيتين مختلفتين: الأولى قياس اهتزاز دوبلر بالليزر لتسجيل الاستجابة الميكانيكية لغشاء الطبلة، والثانية، الفسلجة الكهربية electrophysiology لتسجيل الاستجابة العصبية للعصب السمعي. تم إجراء كلتا التجربتين “بشكل منفصل أو متزامن” لتسجيل الاستجابة الميكانيكية للغشاء والاستجابة العصبية للأذن. تبيّن أن اهتزاز غشاء طبلة الأذن لعثة الشمع أكبر من 1 نانومتر على كامل مجال الاختبار الترددي (50-300 kHz) (انظر الشكل (2))، حيث تُبين التجربة أن إناث عث الشمع أكثر حساسية للأمواج فوق الصوتية بالمقارنة مع الذكور.
نموذج ثلاثي البعد صناعي
تشبه طبلة الأذن عند الحشرة إلى حد كبير طبلة الأذن البشرية، وهي طبقة رقيقة من الأنسجة التي تعمل مع الجهاز الحسي داخل الأذن على تحويل الأمواج الصوتية إلى إشارات عصبية. بالرغم من صغر أبعاد طبلة الحشرة الميلمترية إلا أنها قادرة على تحقيق نفس الأثر السمعي لأجهزة أكبر في الحجم (انظر الشكل (3)). على سبيل المثال، لتحديد الاتجاه الذي جاءت منه الطلقة النارية، يعتمد نظام Boomerang (نظام لكشف مواقع القناصين) على مصفوفة ميكروفون يبلغ عرضها نصف متر تقريباً. وبالمقارنة، فإن العثة الليلية Achroia grisella يمكنها تحديد الاتجاه الذي تأتي منه الأصوات باستخدام طبلة واحدة فقط يبلغ عرضها حوالي نصف ملليمتر.
لتقليد ما تقوم به آذان الحشرات، حاول العلماء في البداية استنساخ هياكل الحشرات باستخدام أنظمة كهروميكانيكية ميكروية من السيليكون (MEMS). ولكن الأجهزة الناتجة افتقرت إلى المرونة والتغيرات الهيكلية المجهرية ثلاثية الأبعاد كالتي في آذان الحشرات الحقيقية، لذلك استخدم أندرو ريد Andrew Reid مع زملائه في جامعة ستراثكلايد Strathclyde تجربة الطباعة ثلاثية الأبعاد لاستنساخ آذان الحشرات بأمانة ودقة أكبر، وعرض مع فريقه تفاصيل البحث في الاجتماع السنوي للجمعية الصوتية الأمريكية في 10 أيار، حيث اعتمد البحث على أعمال سابقة للفريق تركزت على فهم آلية السمع متعدد الاتجاهات (نجمي الاتجاه) التي تتميز به الحشرات.
قام الباحثون بطباعة ثلاثية الأبعاد لمجموعة متنوعة من الأغشية لاستنساخ مجموعة من طبلات الحشرات. تتكون المادة الأساسية لهذه الأغشية من هيدروجيل مرن مثل ثنائي أكريلات البولي إيثيلين جليكول، وتحتوي أيضاً على مادة كهرضغطية مثل بلورة أكسيد البيروفسكايت المعروفة ب اسمPMN-PT التي يمكنها تحويل الطاقة الصوتية إلى إشارات كهربائية، ومركبات فضية موصلة كهربائياً.
لتحسين الأداء الكهرو ضغطي لهذه الأغشية الاصطناعية، جعلها الباحثون أكثر مسامية محاكين المسامية التي تظهر أحياناً في طبلات الحشرات. حيث استطاع الفريق تحقيق المسامية عن طريق إذابة الميثانول في راتنج الطباعة، ومع تصلب الراتنج ينفصل الميثانول وتتشكل قطرات داخل الراتنج وهي أساس المسامية المطلوبة (انظر الشكل (4)).
تساعد الاختلافات المجهرية ثلاثية الأبعاد في السماكة والمسامية والكثافة والمرونة في الأغشية الاصطناعية على التصرف مثل أجهزة استشعار صوتية فعالة وعالية الحساسية. ويساعد التصميم المُقدم على تصفية الصوت تلقائياً بطريقة ميكانيكية من دون الحاجة إلى طاقة وحوسبة كبيرة نسبياً في معالجات الصوت الرقمية [2,3].
يعتقد ريد أنه يمكن تطوير ميكروفونات مصغرة مستوحاة من الحشرات قادرة على اكتشاف إشارات صوتية محددة بسرعة ومن دون استهلاك الكثير من الطاقة أو معالجة كبيرة للبيانات، مع إمكانية فصل الترددات الصوتية المختلفة ميكانيكياً (انظر الشكل (3)). على سبيل المثال، يستطيع الجراد الصحراويSchistocerca gregaria أن يحلل ترددات بنفس قدرة الإنسان، إلا أن القوقعة الصناعية المستوحاة من الجراد الصحراوي تتضمن تحويل الإشارة التماثلية إلى رقمية ومن ثم معالجة رقمية قبل تحفيز العصب السمعي، وهذه المراحل تؤدي إلى تأخير في السمع في الأجهزة، ولكن إذا أمكن فصل الترددات ميكانيكياً يمكنك تقليل التأخير بشكل كبير.
الخلاصة
مازال حتى الآن غير معروف تأثير الاختلافات الهيكلية المجهرية في طبلات الحشرات على السمع، كما أنه من غير المؤكد لماذا تعمل المسامية بالضبط على تحسين الأداء الكهرو ضغطي للأغشية. يُعتقد أن المسام تساعد في توجيه الطاقة الصوتية إلى الجسيمات النانوية الكهر ضغطية، بالإضافة إلى أن المسام تجعل الأغشية أكثر مرونة وتقبلاً للموجات الصوتية. تَحد الأنظمة البصرية الخاصة بالطابعات ثلاثية الأبعاد المتوفرة حالياً من دقة الأغشية الاصطناعية إلى 200 ميكرومتر تقريباً، وأن تحسين البصريات يمكن أن يؤدي إلى دقة أقل من 10 ميكرومتر، وبالتالي تحسين أداء هذه الأجهزة في المستقبل.
= = = = =
*الدكتور المهندس محمد ملحم – أستاذ مساعد في كلية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات – جامعة طرطوس.
References
[1]. Moir, Hannah M., Joseph C. Jackson, and James FC Windmill. “Extremely high frequency sensitivity in a ‘simple’ear.” Biology letters 9.4 (2013).
[2]. https://spectrum.ieee.org/biomimetic
[3]. https://spectrum.ieee.org/biomemetics-moth-ear-microphone
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً