بقلم الأستاذة نُسيبة شيتور*
في زمن تُكتب فيه الرواية السياسية بمنطق الصورة لا بالحقائق، وعبر التوقيت لا التصريحات، تعود إلى الواجهة شخصيتان من عالمين متقابلين: الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
عودة كوهين لم تأتِ عبر مسلسل درامي أو وثائقي جديد، بل عبر ما وصفه مكتب نتنياهو بـ “عملية استخباراتية سرية” نقلت من دمشق إلى مكتب نتنياهو ما يزيد عن 2500 وثيقةٍ ومُقتنىً شخصي للجاسوس الذي أعدم في ساحة المرجة عام 1965 وبالتزامن يُعاد نشر مكالمة صوتية نادرة لعبد الناصر مع القذافي، يعود تاريخها إلى عام 1970، تتضمن تصريحات حول إمكانية التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي.
فلماذا الآن؟ ولماذا معاً؟ وهل هي مجرد مصادفة؟ أم أن هناك من يعيد ترتيب الذاكرة لتخدم وقائع الحاضر؟
الأرشيف كسلاح
من يملك أرشيف إيلي كوهين؟ وكيف خرج من قلب أجهزة الأمن السورية؟
أن يصل هذا الأرشيف إلى تل أبيب (يافا المحتلة)، لا يمكن أن يكون إلا نتيجة تفاهم مع جهة نافذة في الداخل السوري، أو طرف ثالث يملك صلاحية الوصول إلى تلك الخزائن، فالحديث هنا عن وثائقَ وصورٍ وتسجيلات كانت تعدُّ من أسرار الأمن القومي السوري، وتحوّلت فجأة إلى مادة دعائية تُعرض على العلن.
الرسالة واضحة: ما كان يعتبر ذخيرة قومية، بات اليوم أداة رمزية في يد من يراد له أن يكتب التاريخ من جديد.
عبد الناصر خارج البرواز
في نفس التوقيت تقريباً، يظهر تسجيل صوتي لجمال عبد الناصر يبدي فيه استعداداً ضمنياً لحل سلمي مع الاحتلال الإسرائيلي، ويُعبّر عن إحباطه من بعض الأنظمة العربية.
التسريب – سواء كان مُعدّاً مسبقاً أم لا – لم يأت من فراغ، بل هو جزء من إعادة تفكيك الرموز القومية في الوعي العربي، وتصفية ما تبقّى من ملامح مشروع كان يُقاوم الاحتلال ويرفض التسوية.
الأمر لم يعد نقداً سياسياً، بل محاولة لإعادة تعريف مفهوم الزعامة نفسه: الزعيم القومي لم يكن كما تظنون، والجاسوس لم يكن شيطاناً كما تصفونه.
التقاء التوقيت والهدف
ما الذي يجمع بين كوهين وعبد الناصر؟ بين وثائق استخباراتية خرجت من دمشق، وتسجيل قديم خرج من القاهرة؟
-الجامع هو المعركة على الوعي.
-كوهين يعاد تقديمه كبطل، خدم الاحتلال الإسرائيلي ومهّد لانتصارها في حرب 1967.
-عبد الناصر يعاد تقديمه كزعيم واقعي، فكّر في السلام وراوغ الجماهير بخطاب المقاومة.
الرسالة ضمنية لكنها عميقة” لا مقاومة مطلقة، ولا خيانة مطلقة، فقط مصالح تُدار، وملفات تُفتح حين تستدعيها الحاجة”
لماذا الآن؟
لأن الرواية التي تأسست بعد 1948 وحتى السبعينات، لم تعد تخدم التحولات الجديدة.
لأن الاحتلال الإسرائيلي، ومعه بعض العواصم، تُعيد هندسة المفاهيم: من هو العدو؟ ومن هو الحليف؟ من هو الزعيم؟ ومن هو المغامر؟
لأن مرحلة ما بعد غزة، وملف الجولان، ومحور التطبيع القادم، تحتاج إلى ذاكرة مُعدّلة.
من يملك الأرشيف يكتب التاريخ
إن تسريب مكالمة عبد الناصر ليس حدثاً منفصلاً عن إعلان أرشيف إيلي كوهين، بل كلاهما يشكّلان رأسَي رمح في معركة إعادة تعريف التاريخ والمستقبل، فما نراه اليوم ليس ترفاً إعلامياً، بل عملية “هندسة وعي” تستخدم الذاكرة كسلاح، وفي هذه الحرب، من لا يملك أرشيفه، سيُدفن في أرشيف الآخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة نسيبة شيتور – باحثة في الاتصال السياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً