بقلم الأستاذ أيوب نصر*
جرت قبل أيام الجولة الثانية من مفاوضات إسطنبول بين الجانبين الروسي والأوكراني، ومما استهجنه الأوكرانيون واستغربه المتابعون والمحلّلون، سواء في هذه الجولة أو التي سبقتها، هو تضمّن الوفد الروسي المفاوض وزيرًا سابقاً للثقافة ومؤرخاً، وهو فلاديمير ميدينسكي الذي يقود الوفد المفاوض، وهذا الأمر نظر إليه كثيرون على أنه تهاون من الروس ولامبالاة منهم بالمفاوضات وأنهم لا ينظرون إليها نظرة جِدّية تدلّ على نيّتهم في الوصول إلى السلام أو على الأقل إنجاز اختراق في الأزمة.
فهل وجود وزير سابق للثقافة ومؤرخ في المفاوضات الهدف منه إزالة الأسباب الجذرية للنّزاع، أم فيه استهزاء بالطرف الأخر ويدلّ على عدم جدّية الروس وحسن نيّتهم في هذه المفاوضات؟
وللإجابة عن هذا السؤال، ومعرفة مدى جدّية الروس وحسن نيّتهم في هذه المفاوضات، فإنه علينا النظر إلى الأمر بعيون روسية ومحاولة فهمها وفق منهج التفكير والشخصية الروسية.
منهج التفكير عند صانع القرار الروسي
قبل أكثر من سنة جرت مقابلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصحفي الشهير تاكر كارلسون(1)، وقد نالت تلك المقابلة من الاهتمام والمتابعة الكثير، وقامت لها الدنيا واضطربت بها عقول السياسيين وشخصت نحوها أبصار المُهتمين، ومع كل هذا وذاك، مما وصفت لك، فقد اعتبرت مقدمتها التي افتتح بها بوتين كلامه، و التي دامت نصف ساعة من عمر اللقاء، اعتُبرت مملّةً، وإنها مجرد سرد لأحداث وروايات تاريخية لا غناء فيها، ولكن هذا هو الفرق بين اللقاء الجاد والمقابلة الاستعراضية، ولهذا مع أول سؤال لتاكر، ردّ الرئيس بوتين بسؤال آخر: “هل نحن في مقابلة جادّة، أو مقابلة استعراضية؟”؛ فإذا كانت المقابلة جادّة فلن تخلوَ من حمل ثقيل تحمله في ثناياها، وتنطوي عليه في محاورها.
وإذا كان اللقاء جادًّا، ويحمل ما يحمل من ثقل فكري، فلا بدّ له من مقدمة يبيّن فيها ويكشف عن المنهج والطريقة التي يُردّ إليها كل مجمل في اللقاء، ويكشف بها كل خفي في الحوار؛ ولهذا، وبعد ذلك السؤال من بوتين إلى تاكر كارلسون، عن جدية اللقاء من عدمها، أخذ بوتين يتكلم في سرد الأحداث التاريخية، وكيف تكونت الدولة الروسية خلال هذه الأزمنة الطويلة منذ سنة 862 إلى يوم الناس هذا.
فهذا الذي ثقل على الناس في نصف الساعة الأولى من اللقاء، لم يكن سردًا تاريخيًّا مجردًا؛ وإنما هو المنهج والمفتاح، الذي يمكِّن الناس، ليس فقط من فهم كلام بوتين خلال اللقاء؛ بل فهم توجه الدولة الروسية ومؤسساتها الخفية، وكيفية عملها، والأسس التي تقوم عليها، والمنطلقات التي تنطلق منها وتنتهي إليها، أما ما جاء بعد تلك المقدمة من كلام عن أوكرانيا ودور الغرب في الصراع، والعلاقة مع الصين، فإنه يجب أن يفهم وفق المنهج الذي حدده بوتين في المقدمة.
قال الرئيس بوتين: “تاريخ مهم (سنة 988)، وهو عمادة روسيا، حيث تبنّى الأمير فلاديمير، ابن حفيد يوريك، الأرثوذكسية، وبدأت روسيا المركزية تتعزز حينذاك، لماذا؟ بسبب الحدود الموحدة، والاقتصاد المشترك، واللغة الموحدة”، فهنا يوضح بوتين المنهج الذي تسير عليه الدولة الروسية، والذي تطلّب أكثر من مئة عام ليستوي على سوقه، وهو يقوم على الديانة الأرثوذكسية، واللغة الروسية، والاقتصاد المشترك، وهي أمور ثلاثة يقوم كل واحد منها على الآخر، ولا يمكن الفصل بينها بحال من الأحوال.
حتى إن تاكر كارلسون حين استوعب- مع مرور الوقت- هذا المنهج الذي يدور حوله بوتين في حواره خاصة، وسياسة الدول ومؤسساتها عامة، بدأ يلعب على هذا الوتر لإلزام بوتين به، حيث واجهه بما جاء في الإنجيل: “من لطمك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضًا”، وذلك ليقول لبوتين إنكم خالفتم معتقدكم بصفتكم قائدًا مسيحيًّا حين هاجمتم أوكرانيا، فجاءه الرد على النحو التالي: “إنها الروح الروسية”، وبوتين يقصد هنا ما تجذَّر في النفس الروسية من أمور الثقافة، التي تتأثر بأشياء كثيرة، مثل العقيدة الدينية والعقيدة اللغوية اللغة وما تقتضيه الجغرافية، الطبيعة البيئية، وغيرهم.
فبالنظر إلى الأصول التي يقوم عليها منهج التفكير عند الروس، نجدها هي الجغرافيا والتاريخ واللغة والأرثوذكسية، والثقافة هي ذلك السيل المتدفق عبر نهر التاريخ، والذي يحمل معه كل النتاج اللغوي والفكري والديني، عبر قرون طويلة متقادمة، مما يشكل الشخصية الروسية وطبيعة الكائن الروسي، ولهذا لم يكن حضور حضور واختيار ميدينسكي رئيساً للوفد الروسي المفاوض أمرًا اعتباطيًّا.
النظر في ورقة الشروط الروسية
دعنا نسقط ما حملته لنا الأسطر الماضية على ما جاء في ورقة الشروط التي قدّمتها روسيا في الجولة الثانية من المفاوضات مع أوكرانيا، فقد جاء في البند السادس “ضمان الحقوق والحريات والمصالح الكاملة للسكان الناطقين بالروسية ومنح اللغة الروسية وضع لغة رسمية.”(2)، وجاء في البند الحادي عشر: “رفع القيود المفروضة على الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية.”(3)
ومسألة اللغة الروسية وقمع المتكلمين بها في أوكرانيا والعقيدة الأرثوذكسية ومحاربة معتنقيها، وأضف إلى كل هذا وذاك كل الثقل التاريخي، مما يدخل تحت مسمّى الثقافة ودورها وقدرتها، فكان حريًّا أن يحضر شخص ملم بالثقافة والتاريخ تلك الجولة من المفاوضات، ودوره لم يكن، على الأقل من وجهة نظر الروس، ثانويًّا أو لإكمال العدد أو استهزاءً بالطرف الآخر، أو استهتارًا بالمفاوضات، وإنما هو أمر يختلج في عمق العقل الروسي وهو من أصول ذلك العقل والمقدمات التي يبنى عليها فكره.
ولا ننسى أن فلاديمير ميدينسكي، ويُعتبر من أبرز منظري مفهوم “العالم الروسي”، الذي يسعى إلى توسيع النفوذ الثقافي والسياسي لموسكو في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق.
لمحة من الأمس القريب
وتجنُّبًا للاسترسال وإطالة الكلام، فإن الحرب الباردة عرفت ثلاثة ميادين للصراع، الأول هو ميدان التسلح والسباق نحوه، والثاني هو ميدان الاستخبارات والجواسيس، والثالث هو ميدان التوسُّع.
وقد عرف الميدان الأول والثاني تفوّقًا طفيفًا للاتحاد السوفيتي، ولكن الذي حسم الصراع وأخرج العالم من مآزق الحرب الباردة، هو الميدان الثالث، أي ميدان التوسّع، وهذا الميدان كان أهم سلاح فيه هو سلاح الثقافة التي روّج لها إعلاميًّا بشكل كبير وكان التفوق هنا للجانب الغربي.
إذا كان الإتحاد السوفيتي قد تفوّق إلى حدٍّ ما عسكريًّا و استخباراتيًّا، لكنه خسر ميدان التوسع، وما ذلك إلا لما كان يفتقده من سلاح في هذا الميدان، وهو سلاح الدعاية والإعلام، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الآلة الإعلامية الأمريكية والصناعة السينمائية تعمل عملها في حشد الجماهير وتكوين الرأي العام والترويج للنمط الأمريكي والثقافة الأوروبية والقيم الغربية، فأصبحت الشعوب تأبى على حكوماتها الانضمام إلى المعسكر الشرقي، لما تأثرت به تلكم الشعوب من مظاهر الحياة والتفكير الغربي ونمط العيش الأمريكي، والذي ساهمت في انتشاره وإذاعته بين الناس الآلةُ الإعلامية الغربية والصناعة الهوليودية، ليبدأ الاتحاد السوفيتي كل حين يخسر بعضًا من مواليه وقسطًا من أراضيه إلى أن انهار مع توالي الأيام وتعاقب الليل والنهار، وبقي على هذه الحال إلى أن تفكّك وذهب إلى غير رجعة.
وذلك أن التوسّع عن طريق نشر الثقافة وتغليبها على الثقافة المحلية، هو أشدّ أنواع التوسّع وأكثرها فعالية، وهو أشدّ فتكًا من الحملة العسكرية وجعل التبعية نتيجة للعملية الحربية، وذلك ما عبّر عنه أود آرن وستاد في كتابه “الحرب الباردة الكونيّة” بقوله: “ما زال يفترض أن الحرب الباردة كانت سجالًا بين قوتين عظيمتين من أجل القوة العسكرية والسيطرة الاستراتيجية مركزة في أوروبا، هذا الكتاب، على العكس من ذلك، يدّعي أنّ أهم جوانب الحرب الباردة لم تكن عسكرية ولا استراتيجية وإنها لم تتركز في أوروبا، بل كانت مرتبطة بالتطور السياسي والاجتماعي في العالم الثالث، وقد أشرت إلى أن العمليات المزدوجة لإنهاء الاستعمار وتنوير العالم الثالث لم تكن بحدّ ذاتها نتاج الحرب الباردة، ولكنها أثّرت فيها بأساليب أصبحت مهمة للغاية وساهمت في تكوين العالم الذي نعرفه اليوم.”4.
وقال أيضاً: “بالحس التاريخي، وخاصة بزاوية رؤية من الجنوب، كانت الحرب الباردة استمرارًا للاستعمار، ولكن بأساليب ووسائل مختلفة قليلًا. كعملية صراع، تركزت حول السيطرة والهيمنة، وخاصة من حيث الأيديولوجيا. كانت أساليب القوتين العظمتين وحلفائهما المحليين قريبة الشبه بالأساليب التي عمل بها في الحقبة الأخيرة من الاستعمار الأوروبي: مشاريع اجتماعية واقتصادية عملاقة ووعود بالحداثة لمسانديهم ووعيد بالموت للمعارضين أو من يقفون في طريق التقدم”.(5)
فدور الثقافة، بما تنطوي عليه في أحشائها من النتاج التاريخي والديني والفكري والأدبي المتدفق إلينا عبر قرون متطاولة من الزمن، كان دائمًا حاضرًا وبعدًا مهمًّا من الأبعاد الجيوسياسية للدول الكبرى.
خلاصة
لم يكن توكيل مهمة رئاسة الوفد الروسي المفاوص إلى وزير الثقافة السابق في مفاوضات إسطنبول ضربًا من الاستهزاء أو نوعًا من عدم الاهتمام بالمفاوضات، وإنما هو ضمن خطة جيوسياسية لخلق نخبة في أوكرانيا تحفظ مصالح روسيا في السنوات القادمة، كما حدث مع دول العالم الثالث حين خلقت فيها نخبة قوية متأثرة ثقافيًّا بالغرب، أبقت على التبعية له، وشكل جناحًا من أجنحة البيروقراطية في الدول العربية.
هوامش
(1) مقابلة الرئيس بوتين مع الصحفي الأمريكي تاكر كاولسون.
(2) و (3) البنود الكاملة لنص المذكرة الروسية في مفاوضات اسطنبول لتسوية الأزمة الأوكرانية.
(4) و (5) كتاب “الحرب الباردة الكونية” المؤلف: أود آرن وستاد. ترجمة: مي مقلد. الناشر: المركز القومي للترجمة. طبعة 2014.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ أيوب نصر – باحث في العقائد والمدارس الفكرية والاستشراق، مختص في الشأن الأوراسي والعلاقات الدولية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
