بقلم الدكتور يونس الديدي*
مع تصاعد التوترات الإقليمية، اختارت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الحالي دونالد ترامب تنفيذ ضربة استباقية على اليمن، ردّاً على تحذيرات صنعاء لإسرائيل بضرورة السماح بدخول المساعدات إلى غزة خلال مهلة أربعة أيام. ورغم أن هذا القرار جاء في سياق ما يبدو وكأنه تصعيد مدروس، فإن الواقع يكشف عن خطأ استراتيجي جسيم في التقدير، إذ لا يمكن فصل هذه الضربة عن السياق الأوسع للدور اليمني في الحرب على غزة، باعتباره أحد أكثر الجبهات وفاءً وإسناداً للمقاومة الفلسطينية، ليس فقط على مستوى الخطاب، بل أيضاً من خلال الفعل العسكري المؤثّر.
حسابات خاطئة في مواجهة عقيدة صلبة
على ما يبدو، فإن واشنطن تعاملت مع اليمن باعتباره طرفاً يمكن كسره أو تحييده عبر الضربات الجوية، متجاهلة الطبيعة المختلفة جذرياً للعقيدة القتالية اليمنية. فالمقاومة اليمنية ليست مجرد فصيل عسكري تقليدي يمكن ردعه أو احتواؤه بسهولة، بل هي قوة تستند إلى عقيدة صلبة مؤسسة على نصرة المظلوم، والانخراط في القضايا العادلة للأمة. وهي عقيدة تجعل أي محاولة لكسرها أو تحييدها محكومة بالفشل مسبقاً، نظراً إلى ما أثبتته من قدرة على الصمود والمناورة رغم سنوات من الحصار والاستهداف.
هذا الفهم المغلوط أدّى بترامب إلى الاعتقاد بأن توجيه ضربة استباقية كفيلٌ بتغيير قواعد اللعبة، لكنه تجاهل حقيقة أن الجغرافيا وحدها تجعل من التأثير المباشر على المقاومة اليمنية مهمة شديدة التعقيد. صحيح أن الولايات المتحدة قد تنجح في تدمير بعض البنى التحتية أو توجيه ضربات قاسية، لكنها لن تستطيع بأيّ حال من الأحوال القضاء على الروح القتالية لليمنيين أو منعهم من الردّ، وهو ما ينذر بدخول واشنطن في دوامة من الضربات والردود المتبادلة، قد تجد نفسها فيها أكثر حرجاً مما توقعت.
ما وراء الضربة: رسالة إلى إيران أم استدراج لتفاوض؟
ثمة قراءة أخرى لهذه الضربة تشير إلى أنها ليست موجهة لليمن بحد ذاته بقدر ما هي رسالة إلى طهران، إذ تدرك واشنطن أنّ أيّ تغيير في ديناميكيات الصراع لا بدّ أن يمرّ عبر إيران، وأن استهداف صنعاء قد يكون بمثابة استعراض للقوة قبل الدخول في أي مفاوضات محتملة. هذا السيناريو ليس مستبعداً، لكن مشكلته الرئيسية تكمن في أن الإدارة الأمريكية، سواء كانت بقيادة ترامب أو غيره، تتعامل مع الصراع في المنطقة من زاوية تكتيكية بحتة، متجاهلة الجذور العميقة للأزمة.
فأصل المشكلة لا يكمن في صنعاء أو طهران، بل في الكيان الإسرائيلي وسلوكه العدواني تجاه المنطقة، إذ إن ما حوّل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة لم يكن إلا الحصار الإسرائيلي على غزة، والجرائم المستمرة التي دفعت المقاومة اليمنية إلى إعلان ارتباطها المباشر بمجريات الصراع هناك. وبالتالي، فإن أي محاولة أمريكية لعزل الضربات العسكرية عن هذا السياق تبدو منفصلة عن الواقع، وتجعل من الصعب احتواء تداعياتها.
هل تجد واشنطن نفسها في نهاية المطاف تبحث عن تسوية؟
رغم الخطاب التصعيدي، فإن التجارب السابقة تشير إلى أن أي صراع ممتد دون أفق سياسي واضح ينتهي عادة ببحث الأطراف عن تسوية، حتى وإن بدت في الظاهر متمسكة بسياسة “عدم التسامح”. وفي حالة اليمن، فإن مركز الثقل الذي تملكه المقاومة هناك يجعلها قادرة على فرض معادلات جديدة، كما أثبتت قدرتها على منع السفن الإسرائيلية من العبور في البحر الأحمر في فترات سابقة.
من هنا، قد تجد واشنطن نفسها عاجلاً أم آجلاً مضطرة إلى إعادة تقييم موقفها، والاعتراف بأن خياراتها العسكرية وحدها لن تحقق لها الأهداف التي تسعى إليها. وفي نهاية المطاف، قد تكون هذه الضربة الاستباقية مجرد خطوة جديدة في سلسلة الحسابات الخاطئة التي لطالما ميّزت السياسة الأمريكية في المنطقة، لا سيما حين يتعلق الأمر بقوى تمتلك إرادة القتال ولا يمكن إخضاعها بالضربات الجوية وحدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً