بقلم الدكتور آصف ملحم*
قبل كل شيء، و حتى لا يتم اتهامنا بالدفاع عن جهة سياسية معينة، نؤكد أننا مع العدالة، وأننا ندين جميع الجرائم ضد الإنسانية، وندعو إلى القصاص العادل من مرتكبيها في أي مكان في العالم، بغض النظر عن جنسياتهم أو انتمائهم القومي أو الديني أو الإيديولوجي. وفي الوقت نفسه، نستنكر الاستثمار السياسي للقضايا الإنسانية؛ فحجم الألم الناجم عن هذا الاستثمار أكبر بكثير من ذلك الذي نجم عن الجرائم نفسها.
تصدرت محاكمة الضابط السوري، أنور رسلان، التي جرت في المحكمة الإقليمية العليا، في مدينة كوبلنز الألمانية، الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية. كما تنافست المنظمات و المؤسسات و المنتديات، الدولية و الإقليمية، والكثير من الشخصيات المعنية بهذا الشأن، من محللين وناشطين وإعلاميين وكتّاب ومعلقين، على الترحيب بهذه المحاكمة وبالحكم الصادر، الذي قضى بسجن المدعو أنور رسلان مدى الحياة، إلى درجة وصفه البعض بـ (التاريخي).
أعتقد أن الكلام في هذه المواضيع أصبح مُستهلَكاً؛ فنحن نعيش في عالم من التناقض والازدواج والانفصام، نرى فيه المتحمسين لتطبيق القانون أول ناقضيه، وطالبي العدالة أكثرهم ظلماً، ومريدي الثأر لدماء الأبرياء شركاء في سفكها. لذلك لن أطيل التدبيج، وسأحاول الدخول في الموضوع مباشرةً، مركّزاً على نقطتين أساسيتين، وهما: جرائم المعارضة السورية، الامتناع عن محاكمة شخصيات أخرى لأسباب سياسية.
في الواقع، إن الملف السوري هو ملف معقد وشائك، تداخلت فيه العديد من العوامل السياسية والأمنية والقانونية والأخلاقية أيضاً؛ لذلك أصبح الفصل فيه أمراً في غاية الصعوبة. ولكن، ينبغي على مدّعي الحرص على العدالة والقانون عدم ممارسة الانتقائية في هذا الملف؛ إذ لا يمكن إقناعنا، لا بل لا يمكن إقناع تلميذ في المدرسة، بأن جهة واحدة و وحيدة في سورية هي من تمارس جرائم ضد الإنسانية، في حين أن الجهات الأخرى بريئة من هذا الاتهام!
بناءً على ذلك، فإنه يجب تناول هذا الملف كوحدة كاملة متكاملة بهدف الوصول إلى الحقيقة، الأمر الذي يساعد في استجلاء كافة الأسباب التي أدت إلى تدحرج الأحداث ووصولها إلى ما وصلت إليه الآن، وبالتالي يصبح تحقيق العدالة وتطبيق القانون أسهل وأنزه.
قد يقول قائل: إن المحاكمة التي جرت كانت خاصة بشخص بعينه، وقد تبين بالدلائل الدامغة أنه ارتكب جرائم ضد الإنسانية! فلماذا أنتم تعترضون على ذلك؟
والجواب، في الواقع، بسيط و واضح، وهو: إن الاعتراض الذي سجلناه ليس على ارتكاب المدعو أنور رسلان أم عدم ارتكابه للجرائم المنسوبة إليه، بل على كيفية تناول الموضوع؛ إذ لا تخفى الخلفيات والآثار السياسية لمثل هذه المحاكمات؛ فالتركيز على جهة معينة دون أخرى يثير حفيظة كل متابع! لذلك، من حقنا في هذا السياق أن نطرح السؤال:
إذا أعددنا قائمة بأسماء بعض الشخصيات من المعارضة السورية، المقيمة على أراضي الاتحاد الأوروبي، فهل سنرى الاندفاع والحماس نفسهما في التحقيق معهم؟
فإذا كان الجواب لا، فيجب على من قام بتحريك هذا الملف توضيح الدوافع الحقيقية لذلك؛ وبغض النظر عن طبيعة هذه الدوافع، فهي دليل على عدم نزاهة هذه المحاكمة، إذ كيف يمكن للعدالة واللانزاهة أن تجتمعا؟!
وإذا كان الجواب: نعم، فنحن مستعدون لإعداد هذه القائمة، مع علمنا المسبق بأنه سيتم الاحتفاظ بها في أدراج المحاكم، وستقابل بالإنكار و الإهمال و التسويف؛ ففي تاريخنا الحديث الكثير من الشواهد على ذلك.
تأسيساً على ذلك، نقول للسوريين المقيمين في أوروبا عموماً، وفي ألمانيا خصوصاً، الذين لهجوا و يلهجون بمصطلح (العدالة الانتقالية) على كل منبر: لا يمكن الاجتزاء في هذا الملف؛ فالاجتزاء يخفي خلفه نوايا خبيثة، نعرفها جيداً. وإذا كان ولا بد من الاجتزاء لأسباب فنية أو لوجستية، أو غيرها من الأسباب، فيجب توضيحها للناس!
ثمة نقطة أخرى في الملف السوري، وهي: الجهات التي حرّضت السوريين على حمل السلاح ضد السوريين، والجهات التي موّلت و درّبت و أرسلت الإرهابيين إلى سورية، والجهات التي أرسلت السلاح إلى سورية. فهذه الجهات معروفة للجميع، ولا أعتقد أنها تخفى على النخب السياسية الأوروبية؛ فالكثير من ممثلي هذه الجهات يتجول في العواصم الغربية بحرية مطلقة! فهل ينبغي السكوت عن هذه الجهات؟ أليس المحرّض على الجريمة كمرتكبها في جميع الشرائع والقوانين؟!
أما النقطة الأخرى، التي أودّ التطرق إليها في هذه المقالة، وهي امتناع ألمانيا عن محاكمة بعض الشخصيات السياسية، التي واجهت تهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. فبالرغم من عدم ارتباطها بالملف السوري، إلا أن التعريج عليها ضروري، لكي نبين بأن هذه المحاكمات تجري على خلفيات سياسية فحسب. وسأكتفي بتناول شخصيتين فقط، مع العلم أن القائمة طويلة جداً.
1-أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق. شارك شارون، الذين كان وقتها يشغل منصب وزير الدفاع، بتنفيذ مجزرة في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في 16 أيلول (سبتمبر) من عام 1982. تراوح عدد ضحايا هذه المذبحة بين 750 و 3500 من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين. وقد رفضت ألمانيا على لسان مستشارها الأسبق جيرهارد شرودر، في جواب على سؤال لأحد الصحفيين خلال المؤتمر الذي انعقد أثناء زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى برلين بتاريخ 10 تموز 2001، محاكمة شارون. مع العلم أن ألمانيا استقبلت شارون قبل أسبوع من هذا المؤتمر؛ أي بعد مضي بضعة أشهر من اندلاع انتفاضة الأقصى التي قمعها الجيش الإسرائيلي بكل وحشية، وارتكب فيها أفظع المجازر بحق الشعب الفلسطيني.
2-ميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس الجورجي الأسبق، الذي هجمت قوات بلاده على مدينة تسخينفال، عاصمة أوسيتيا الجنوبية، بتاريخ 8 آب 2008. كان ساكاشفيلي، بعد تركه لمنصب الرئاسة في عام 2013، يتجول في معظم العواصم الغربية بحرية مطلقة، ولم نرَ متحمساً لمحاكمته في هذه الدول. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن كوادر المحكمة الجنائية الدولية يعملون على الأراضي الروسية والأوسيتية، ولقد تحدثتُ في مقالة مستقلة، بعنوان: العدالة المفقودة في العدالة الدولية!، عن المخالفات التي يرتكبونها في تحقيقهم في الحرب الجورجية-الأوسيتية بغية ابتزاز روسيا.
ختاماً، لقد كان ولا يزال صوت النخبة السياسية الغربية في الحق خافتاً، ترتفع وتنخفض درجة حماسهم وحرصهم على الإنسان وحقوقه وفق مصالحهم السياسية، لذلك لا يمكن أن تنطلي الخلفيات السياسية لهذه المحاكمات على العقلاء؛ فالانتقائية في تطبيق القانون هو انتفاء للنزاهة، ولا معنى للحديث عن العدالة بانتفاء النزاهة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً