بقلم الدكتور آصف ملحم*
يوماً بعد يوم، تتراكم الوقائع والحقائق التي تؤكّد أنّ هناك سعياً غربياً حثيثاً للتّمدد في آسيا الوسطى عموماً وفي كازاخستان خصوصاً، ولا أعتقد أنّ الدوافع والنوايا الحقيقية للاهتمام الغربي بهذه المنطقة الحيوية تخفى على المتابع والمراقب.
في بداية شهر تشرين الثاني الجاري، نشرت صحيفة راسيسكايا گازيتا (أو الجريدة الروسية) مقالة للسيد وزير الخارجية الروسي بعنوان: (روسيا وكازاخستان تعاون بلا حدود). في هذه المقالة أشار سيرگي لاڤروﭪ بوضوح إلى نقطتين هامتين:
1- تصاعد العَداء للنّاطقين باللغة الروسية في كازاخستان،
2- محاولة بعض القوى الخارجية تمزيق العلاقة بين روسيا وكازاخستان.
لا يمكن أن يلقي السيد لاڤروﭪ كلامه جُزافاً، فهو السياسي المخضرم ذو الخبرة الطويلة، وبالتالي لابد وأن يكون قد استند إلى وقائع وحقائق مؤكّدة للوصول إلى هذه الاستنتاجات.
في الحقيقة، إن مناقشة جميع جوانب العلاقات الغربية – الكازاخستانية في مقالة واحدة غير ممكن، لذلك سنكتفي بالإضاءة على بعضها. مع العلم أنني قد تناولت بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع في مقالة سابقة بعنوان: أحداث ماسانتشي والأصابع الغربية الخفيّة، يستطيع القارئ الكريم الرجوع إليها.
بدايةً، قد يكون من المناسب، لفهم السياسية الخارجية الكازاخستانية، الإشارة إلى حقيقتين هامتين:
آ-لا يوجد في كازاخستان منافذ بحرية،
ب-كازاخستان هي دولة عبور بين القارات transcontinental country، وتقع بين ثلاث قوى عظمى: الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين.
لذلك، لا يمكن لكازاخستان تحقيق أهدافها وطموحاتها دون التوافق مع جيرانها؛ وهذا ما دعا الإدارات الكازاخستانيّة إلى اتّباع سياسة خارجية، وصفها العديد من المراقبين بأنها (متعددة المتّجهات) و (متعددة المستويات)، كما أنّ العديد من الأدبيات السياسية وصفت الاستراتيجية الكازاخستانيّة بأنها (استراتيجية خروج). وهذه السياسة، في الواقع، سيف ذو حدين؛ إذ أنّه من الصعب تحقيق التوازن في مصالح شركاء كازاخستان، خاصة إذا استخدم بعض الشركاء- كخصوم روسيا والصين- هذه الفرصةَ لزعزعة استقرار المنطقة.
لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تعترف باستقلال كازاخستان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولها سفارة في مدينة نور سلطان (أستانة سابقاً)، كما أنّ لها قنصلية في مدينة ألماتا. ولكازاخستان قنصليتان في الولايات المتحدة، واحدة في سان فرانسيسكو وأخرى في نيويورك، إضافة إلى سفارتها في مدينة واشنطن.
وبالرغم من توقيع عدد كبير من الاتفاقيات، متعددة المستويات والأغراض، إلا أنه لا يوجد معاهدة تعاون استراتيجي بين واشنطن ونور سلطان؛ باستثناء (الحوار الموسع في مسائل الشراكة الاستراتيجية Enhanced Strategic Partnership Dialogue)، التي وقّعها الرئيسان ترامب ونور سلطان نازاربييف، أثناء زيارة الأخير للولايات المتحدة بتاريخ 16 كانون الثاني 2018.
في عام 2015، وبمبادرة من إدارة الرئيس باراك أوباما تمّ إحداث المجموعة 5+1، وتضم جمهوريات آسيا الوسطى الخمس إضافة للولايات المتحدة. وأثناء زيارة الرئيس الكازاخستاني لواشنطن في عام 2018، تعهّد الرئيسان، ترامب ونازاربييف، بحل جميع المشاكل الإقليمية الخاصة بوسط آسيا ضمن إطار عمل المنصّة 5+1.
في 22 حزيران عام 2018، بمبادرة من مجموعة من الدول، اتّخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 72\283 حول (تعزيز التعاون الإقليمي والدولي بهدف ضمان السلام والاستقرار والتطور الدائم لمنطقة وسط آسيا).
وفي بداية عام 2020، ختم وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، جولته في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، والتي شملت كازاخستان وأوزبكستان، باجتماع في مدينة طشقند مع وزراء خارجية جمهوريات آسيا الوسطى الخمس ضمن إطار مجموعة العمل 5+1. وبعد هذه الجولة مباشرة تمّ نشر استراتيجية الولايات المتحدة في آسيا الوسطى في الفترة 2019-2025. وفقاً لهذه الاستراتيجية، فإن هدف اشتراك الولايات المتحدة من العمل ضمن مجموعة 5+1 هو تعزيز التواصل والسيادة والاستقلال ووحدة أراضي جمهوريات آسيا الوسطى. ولقد ذُكر القرار الأممي 72\283 في هذه الاستراتيجية.
وبخلاف الولايات المتحدة الامريكية، فإن خطوات الاهتمام الأوروبي بكازاخستان كانت أقل تسارعاً؛ إذ أنّ النظرة الأوروبية لكازاخستان على أنّها دولة بعيدة استمرت لفترة طويلة. والحقيقة أن العلاقات الأوروبية-الكازاخستانية انتظمت ضمن اتفاقية التعاون والشراكة Partnership and Cooperation Agreement (PCA)، التي تمّ توقيعها في عام 1995، إلا أنها لم تدخل حيّز التنفيذ حتى عام 1999. وكان الهدف الأساسي لهذه الاتفاقية هو دعم قطاع الأعمال الكازاخستاني وتعزيز الديمقراطية والمساعدة في دعم الاقتصاد بهدف الانتقال إلى اقتصاد السوق.
وفي عام 2007، أثناء ترؤّس ألمانيا للاتحاد الأوروبي، تمّ تبني استراتيجية الاتحاد الأوروبي لتطوير التعاون مع آسيا الوسطى European Union Strategy Paper for Developing Cooperation with Central Asia. ركّزت هذه الاستراتيجية على قضايا: مواجهة التحديات والمخاطر المشتركة، الاستقرار البيئي والمياه، التواصل الطرقي، نقل الطاقة، حقوق الإنسان والديمقراطية، التعليم والشباب، الاقتصاد، الاستثمارات، التطور الاجتماعي.
وفي عام 2014 أثناء زيارة الرئيس نازاربييف لبروكسل على رأس وفد رفيع المستوى، تمّ الاتفاق على توسيع اتفاقية التعاون والشراكة PCA، لتصبح اتفاقية التعاون والشراكة الموسعة Enhanced Partnership and Cooperation Agreement (EPCA)، والتي تم توقيعها في عام 2015. ويبدو أن الرئيس الكازاخستاني الجديد، قاسم جومارت توكاييف، يسير على خطا سلفه نازاربييف في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي؛ ففي 11 حزيران من عام 2020 عقد مؤتمراً في بروكسل بعنوان: السنة الأولى من رئاسة توكاييف، الإصلاحات والثقة المجتمعية، وفيه تمت مناقشة العديد من مسائل السياسة الداخلية الكازاخستانية والتعاون مع الاتحاد الأوروبي.
أما في المجال العسكري، فلقد كان التعاون بين الناتو وكازاخستان متعدد الأوجه؛ ففي عامي 2003 و2004 زارت شخصيات رفيعة المستوى من حلف الناتو كازاخستان وتمّ الاتفاق على خطة منفردة للشراكة Individual Partnership Action Plan (IPAP)، ولقد تم تبني هذه الخطة في عام 2006 بصيغة: الناتو + كازاخستان. إضافة إلى ذلك، أرسلت كازاخستان، بين عامي 2003-2008، كتيبة من قوات النخبة المجوقلة (كازبات) لمساعدة القوات الأمريكية في العراق. مع العلم أن كتيبة (كازبات) تأسست في عام 2000، وفي عام 2007 تم تشكيل اللواء (كازبريگ)، وضمنه انضوت الكتيبة (كازبات). ولقد تلقى اللواء دعماً كبيراً من دول حلف الناتو، سواء على مستوى التدريب أو المعدات العسكرية، بهدف رفع كفاءته وتجانسه العمليّاتي مع القوات الأطلسية. علاوةً على ذلك، هناك الكثير من أوجه التعاون العسكري بين كازاخستان وحلف الناتو في بحر قزوين وفي أفغانستان.
وفي مجال علم الأحياء الدقيقة microbiology، نلاحظ أنّ النشاطات كانت بدعم وتمويل مباشر من وزارة الدفاع الأمريكية مع العديد من المعاهد البحثية التابعة للوزارات الكازاخستانية ذات الصلة، وهي: وزارة الصحة، وزارة التعليم والعلوم، وزارة الزراعة، الهدف المعلن لهذه الأبحاث هو تقليص التهديدات البيولوجية. وفي الفترة بين عامي 2005-2018، تم إنجاز الكثير من المشاريع.
في المجال الثقافي، فإنه يمكن توصيف النشاط الغربي بأنه محاولة للتأثير على الوعي الجمعي الكازاخستاني ونشر القيم الغربية. يتم ذلك عبر مجموعة من المنظمات غير الحكومية Non-Government Organizations (NGO)، التي تنشط في آسيا الوسطى والولايات المتحدة. وتتلقى هذه المنظمات دعماً مالياً من سفارة وقنصلية الولايات المتحدة في كازاخستان. إضافة إلى ذلك، فإن ممثليّة الوكالة الأمريكية للتطور الدولي في العاصمة (نور سلطان) US Agency for International Development (USAID) تدعم العديد من النشاطات في مجال الثقافة والتعليم.
من ناحية أخرى، فإن محاولات تقليص الثقافة الروسية في كازاخستان تتجلى في عدة خطوات:
1-تحويل اللغة الكازاخستانية من الأبجدية السيرلانية أو الروسية Cyrillic إلى الأبجدية اللاتينية. ولقد بدأ الحديث في هذا الموضوع منذ عام 2012، وفي عام 2017 وقع الرئيس نازاربييف مرسوماً للتحوّل التدريجي إلى الأبجدية اللاتينية.
2-تقليص وجود اللغة الروسية في كازاخستان، بالرغم من أن اللغة الروسية، إلى جانب اللغة الكازاخستانية، هي لغة رسمية في كازاخستان. فلقد نصّ قانون الإعلام، الذي وقعه نازابييف في عام 1999، على أن نصف البرامج التلفزيونية والراديوية يجب أن تكون باللغة الكازاخستانية. كما أن نازابييف نفسه صرّح علناً في عام 2006، في جمعية شعوب كازاخستان: بأنّ ثنائية اللغة هي ظاهرة مؤقتة، وفي المستقبل ستسيطر اللغة الكازاخستانية.
بناءً على ما سبق، يبدو واضحاً- من وجهة نظري- أنّ جميع هذه النشاطات والمحاولات ترمي إلى إبعاد كازاخستان عن الوسط الثقافي واللغوي الروسي، وبالتالي تسهيل خروجها من تحت التأثير السياسي الروسي، بهدف تهيئة الوعي المجتمعي للاندماج في فضاءات جيوسياسية أخرى.
ختاماً، لابدّ من الإشارة إلى أنه يوجد ثلاث آليات للتأثير في بلد ما:
1-التأثير من الخارج،
2-التأثير من الداخل،
3-التأثير من الداخل والخارج معاً.
اختارت الدول الغربية التأثير من الداخل الكازاخستاني نظراً لوجود الصين وروسيا؛ إذ أنّ أي فعل غير محسوب العواقب قد يؤدي إلى ردة فعلٍ من هاتين الدولتين العظميين. لذلك نرى أن التّغلغل الغربي في هذه المنطقة يجري دون إثارة أي ضجة؛ فعلى الرغم من التعاون الطويل بين كازاخستان والولايات المتحدة فإن الأخيرة تتحفظ على وصفه بالتعاون الاستراتيجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً