بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
عند العرب وحدَهم يتم الحديث عن الشهداء كل يوم، بالآلاف وبالملايين، في حين وفي مختلف بقاع العالم سقط العديد من الضحايا كثمن للاستقلال والحرية من فيتنام و نيكاراغوا و الكونغو و فرنسا … الخ. لكن في قنوات العرب يتم التذكير يومياً بهم، في مظهر نرجسي يوحي بالدونية والتعلق بالماضي، في وقتٍ طوت كل دول العالم صفحات الماضي وفتحت مجالات للتعاون مع العدو القديم من أجل تحالفات وتكاملات اقتصادية وشراكات أمنية و دفاعية.
هذا المرض العربي بوهم الانتصارات، يتجلى يومياً في بعض البقاع العربية، ففي غزة مثلاً هناك مسافة كبيرة بين الحديث عن انتصار المقاومة وصمود أهل غزة الذين ذاقوا كل أنواع العذاب والجوع والبؤس. وكل إنسان على وجه الأرض يجب أن ينحني احتراماً لما يقع للشعب الفلسطيني، وتحمّله لأخطاء سياسية استراتيجية فظيعة، تتحمله الفصائل الفلسطينية في غياب التنسيق والتفاهم بينها، وأيضاً تهور بعض الفصائل في قرارات فردية انتحارية.
الحديث عن الانتصار، هو تأكيد عن خلل جسيم في العقل السياسي العربي، فنحن نتحدث عن نصر لم يحدث بمنطق الواقع المُعاش. بعض القيادات تنتصر لنفسها بحجة عدم قدرة العدو القضاء عليها، وربما تناست أن العدو يعمل على بقائها خدمةً لمشاريعه التوسعية. وبهذه الحجج فقادة الفصيل يتجاهلون آلام الشعب الأعزل الذي تعرّض لشتى أنواع الحصار والتضييق وإدخاله في حرب غير متكافئة. فبقاء القادة بعد وقف الحرب يبدأ دوماً باحتفالات نصر البقاء، ولا يهم ضريبة الدم التي دفعت من أجل ذلك، فخراب الوطن وعدد القتلى لا يهم، ما دام القادة باقون.
أساطير النصر هي تغذية لخداع النفوس عوضَ الاستفادة من الدروس، حقناً للدماء وبناء الذات وتعظيم القدرة قبل المواجهة، لأن القضيةَ قضيةُ شعب وأمة وليست قضيةَ فصيلٍ أو إيديولوجيا. فالواقع يقول إن القطاع دُمِّر بالكامل، ورغم ذلك يتحدثون عن النصر. واجبنا اليوم هو النقد الذاتي لتصحيح المسار وتطوير فهمنا للواقع وقناعاتنا وأهدافنا. مغفّل من يرى أن الاحتلال لم يكن يعلم بمخططات الفصيل، إذ كان هو من سمح بتطوير قواته وتمدده في القطاع من أجل تفكيك الداخل الفلسطيني أكثر مما هو مفكك.
أسوأ صور الحرب حين نتحدث عن انتصارات في الوقت الذي يُباد فيه كل شيء، مما يعني أننا نرى قدراتنا أكبر بكثير مما هي عليه، ونواصل سرد حكايات غير حقيقية عن المقاومة وطبيعة الصراع غير العادل عسكرياً. فالمقاومة حق مشروع ضد المحتل، لكن في حالة غزة يمكن اعتباره انتحاراً لعدم التنسيق مع الفصائل الأخرى واستشارة كل الشعب الفلسطيني.
فإذا كان ما يدور في غزةَ هو بحث عن الانفراد بالسلطة، وإذا فعلت حماس ذلك فهي تتبنى أجندة مناقضة تماماً للدفاع عن الوطن، فكيف يتم التضحية بألاف الأرواح بحثاً عن مكاسبَ سياسية. كما أن العتاد الحربي الذي استعمله الفصيل يقدر بملايين الدولارات، في زمن كان القطاع يئن تحت وطأة الفقر و الجوع و التهميش.
لذلك يبرز السؤال المُلِحُّ التالي:
لمصلحة من تدور هذه الحرب؟
فحين يُطمئننا الفصيل بأن رجال المقاومة بخير وأن العدو لم ينل منها، وكأن الشعب لا يدخل ضمن المعادلة. هنا يمكن طرح الكثير من الأسئلة بطريقة عقلانية بعيداً عن العواطف خدمة للقضية وللشعب الفلسطيني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً