بقلم الأستاذ عياد البطنيجي*
جاء التحالف السوري – الإيراني كمظلة أمنية لحماية النظام السوري. غير أنّ النظام لم يكن يظن بأن هذا التحالف سيكون سبباً في سقوطه. وبذلك يكون قد صنع المشكلة لنفسه عندما أحاطها بمجموعة من الأخطار بأن جعل من سورية حجر الأساس لمحور المقاومة. سقط نظام الأسد، وهرب الإيرانيون إلى العراق، ولم يدافعوا عن حليفهم، وقُطع طريق الإمداد إلى حزب الله الذي كان يمرّ عبر دمشق، بعد توعد حزب الله بإغراق الجيش الإسرائيلي في الوحل اللبناني، وادّعاء محور المقاومة بأنه قادر على تدمير إسرائيل في سبع دقائق. لقد عاد اليهود إلى بيوتهم في الشمال بعد أن توعد حزب الله، ومحللو قناة الجزيرة، باستحالة عودتهم.
غير أن التاريخ سيذكر بأن هجوم السابع من أكتوبر من العام الماضي ارتدّ سلباً على أذرع إيران: سقوط نظام الأسد، ونزع السلاح السوري دون قتال، وانهيار محور المقاومة، وسقطت معه استراتيجية وحدة الساحات.
منذ سقوط نظام الأسد، تتعامل إسرائيل مع الواقع السوري الجديد بالضغط إلى الحدود القصوى عبر خلق وقائع جديدة لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في نزع السلاح السوري دون قتال. فقد شنت عملية كبيرة لتدمير القدرات العسكرية الاستراتيجية للجيش السوري، والتدمير الشامل للوسائل القتالية التي تشكل تهديدًا كانت بحوزة الجيش السوري. فقد طالت الغارات الإسرائيلية مركزَينِ للأبحاث العلمية، والأسلحة الأكثر استراتيجية، كما تم استهداف مستودعات صواريخ “سكود”، ومنصات إطلاق صواريخ، وعدد من القواعد العسكرية. وألحقت أضرارًا جسيمة بمنظومة الدفاع الجوي، ودمرت صواريخ أرض – جو الاستراتيجية، وشملت الأهداف طائرات مقاتلة، ومروحيات قتالية. بالإضافة إلى أنها توسعت في الاستيلاء على مناطق في الجنوب عبر السيطرة على الجانب السوري من جبل الشيخ، كما تمركزت القوات الإسرائيلية في المنطقة العازلة، واحتلت جزءاً من أراضٍ سوريةٍ تستطيع من خلالها تهديد دمشق. فقد تقدمت قوات الجيش الإسرائيلي إلى ريف دمشق وصارت على مسافة 15 كيلو متراً من العاصمة.
تدّعي إسرائيل بأن هذه الإجراءات مؤقتة، وهي مستخلصة من الدروس والعبر من هجوم السابع من أكتوبر. لكن ما يبدو أن هناك هدفاً أعمق من وراء هذا التحرك الإسرائيلي. بالنسبة لإسرائيل، ثمة فرصة قد لاحت لتحقيق الهدف الأكبر المتمثل في إعادة تشكيل النظام السوري الجديد بمواصفات معينة على النحو التالي:
1-الاستيلاء على المنطقة العازلة: وبذلك فإن إسرائيل تستعد لأسوأ السيناريوهات المتخيلة، بمنطق استعد للأسوأ. فمن جهة، إن التقدم للسيطرة على المزيد من الأرض يأتي بهدف حيازة موقع قوة يضعها في أقوى وضع للتفاوض. ومن جهة أخرى، فمن خلال التقدم والضغط، أي من خلال تجميع نقاط استراتيجية، تحاول إسرائيل أن تجبر النظام السوري الجديد على التجاوب مع تصوراتها عبر التفاوض، وذلك تحت الهجوم المباشر. وفي حال قبول النظام الجديد بالتسوية، يصبح لدى إسرائيل مساحة للقيام بتنازلات وإرجاع بعض ما استولت عليه.
2-صياغة جديدة لمستقبل العلاقة بالنظام الجديد: ما تريده إسرائيل من النظام الجديد أن يتحول إلى صديق. نافلة القول إن المفاوضات امتداد للحرب، وههنا تظهر إسرائيل بأنها تحمل السيف في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى.
3-ضبط التسلح: تسعى إسرائيل في المستقبل المنظور، إلى فرض اتفاقيات تلزم النظام السوري الجديد بمستوى معين من التسلح، ومنع الأسلحة البيولوجية والكيمائية والاستراتيجية، بما يضمن بأن سورية لن تشكل تهديدًا محتملًا. وبذلك تريد فرض معادلة جديدة، أي أن تبدأ سورية من بدايات جديدة، وبالتالي القطيعة مع الترتيبات القديمة.
4-السيادة على الجولان: لا تخفي إسرائيل أطماعها في الجولان. وعليه، فهي تريد اعترافاً رسمياً بسيادتها الكاملة على الجولان، وأنه سيبقى جزءاً لا يتجزأ من السيادة الإسرائيلية، لما يشكله من ضمانة أمنية لذلك فهي ترفض قطعياً التنازل عن سيادتها. وهي تعمل على توظيف الاعتراف الأمريكي في عهد الرئيس دونالد ترامب، عندما أقر لنتنياهو بسيادة إسرائيل على الجولان في عام 2019.
5-السيطرة على النتائج: تمثل الإجراءات العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري، إمكانية لترجمتها إلى مكاسب استراتيجية متى تسنح الظروف المناسبة. وعليه، تريد إسرائيل أن تضع نفسها في وضع يسمح لها بالسيطرة على النتائج، فالوضع السوري لم يستقر بعد، ويمر بمرحلة انتقالية صعبة مفتوحة على احتمالات، وهناك مجموعات مسلحة على مقربة منها، كما لم تتبين توجهات النظام الجديد.
6-السلام مقابل السلام: في نهاية المطاف، ما تسعى إليه إسرائيل تجاه سورية الجديدة هو السلام مقابل السلام أو السلام مقابل الحماية، دون تنازلات فعلية، وعبر إجراءات إكراهية عسكرية تدخل من خلالها في صلب تشكيل الأحداث في سورية، عبر ترجمة تلك الإجراءات إلى ترتيبات سياسية. وبالتالي النصر بالأمر الواقع، ويعني ذلك بأن سورية في متناول اليد، وأجزاء من أراضيها محتلة، وقوتها العسكرية الاستراتيجية مدمرة، ووضع داخلي غير مستقر.
ولا يبدو أن إسرائيل ستتراجع عن هذه الأهداف الاستراتيجية، ولذلك فإن كل الوقائع الميدانية التي أوجدتها مؤخرًا في سورية ليست مؤقتة بقدر ما أنها تأتي مرهونة بكيفية استجابة النظام الجديد الذي أحاطته تل أبيب بشروط صارمة. كما لا يبدو أيضاً بأن النظام الجديد سيكون قادراً على مواجهة هذه التحديات الإسرائيلية حتى ولو بالحد الأدنى. فقد أسقطت الثورة النظام دون أن يكون لها تصور تجاه إسرائيل. قد نفى أحمد الشرع النية في استخدام الأراضي السورية لشن هجمات على إسرائيل، وأن النظام الجديد ملتزمٌ باتفاقية فضّ الاشتباك المبرمة في العام 1974، وهي نفس مقولات النظام القديم، ولا يبدو بأن إسرائيل ستكتفي بهذا المسار فقط، فقد تسعى إلى تكبيل النظام باتفاقيات الحد من التسلح، ونزع السلاح، والسلام مقابل الحماية، والاعتراف بسيادتها على الجولان، والتطبيع.
يمكن القول إن تبعات الهجوم على الجبهة السورية ما تزال تنتج مفاعيلها، فإسرائيل تراكم نقاط استراتيجية، وأيضاً سيطال ذلك إيران نفسها، وتصفية ما تبقى لها من نفوذ في العراق واليمن. كل ذلك يعد كاشفًا عن مدى الفرص التي تتخلق أمام إسرائيل، والاستفادة الواسعة النطاق لتبعات هجوم السابع من أكتوبر.
هذه هي النتائج الفعلية لهجوم حماس المفاجئ على غلاف غزة. فالنوايا التي كانت خلف الهجوم لم تعد مهمة، فالحقيقة الفعلية لما يحدث في الواقع أنه تم تفكيك وحدة الساحات، وانقلبت أوضاع محور المقاومة رأساً على عقب، وتم فصل الجبهات عن بعضها البعض، وقطع طرق الإمداد والاتصال، وزحزحة توازن المحور، وضرب عصبه بإسقاط نظام الأسد، وتقطيع الأذرع الإيرانية، وضرب كل الآمال التي أشاعتها إيران عن الممانعة، وبدأ الشعور بالوقوع في الشرك يتسلل إلى معنويات المحور.
وما تزال تداعيات هجوم السابع من أكتوبر تتضاعف، فإيران لم تفعل شيئًا ينقذ حليفها السوري، ولا ترغب في الاشتباك الكبير. غير أن ذلك لن يحميها، فالنار ستصل إلى طهران نفسها. إذ تحاول إسرائيل أن تستغل هذه اللحظة التاريخية الملائمة، والفرصة التي لاحت، عبر توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية. فكما أُخرج النظام السوري من المعادلة سيتم إخراج إيران أيضًا، وإن أي ضربة توجه للمنشآت النووية، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وبعد تقطيع الأذرع الإيرانية في الخارج، يعني فتح الجبهة الداخلية في إيران، بمعنى تفاقم الاستياء بين صفوف الشعب الإيراني.
وعليه، ربما نكون على موعد من سقوط نظام آخر في محور المقاومة. فهذه لعبة القوة، وهي ليست لعبة عنتريات وخطوات غير مدروسة، وشعارات رنانة.
فالحقيقة أن المحور تدهور استراتيجياً، وسقط سقوطاً مدوياً ليس من بعده قيام، وأنه لم يكن أكثر من بيت العنكبوت، وكل هذا الكلام عن المقاومة وتوازن الرعب لم يكن سوى لغة تهدف إلى إسكات الناس واحتكار اللغة وتخوين كل من تفوّه بكلمة تخالف لغة محور المقاومة.
فهذه اللحظة الإسرائيلية، أعني لحظة الذروة في النصر، هي النتيجة الفعلية لهجوم حماس المفاجئ في السابع من أكتوبر. فالحقيقة المؤثرة هي ما يحدث في الواقع لا في تلك الشعارات التي أشاعها محور المقاومة. وهذه النتيجة تحصل ليس بقوة إسرائيل الذاتية بل بسبب الفراغ الكبير في المنطقة. إن الضعف العربي، وغياب قوة فعلية، وسوء النية لدى محور المقاومة، وسوء التقدير أيضاً، والفراغ العربي والإسلامي، كل ذلك يغري إسرائيل بالمزيد من التوسع وتعميق سيطرتها، والسعي إلى أقصى الممكن، وتحقيق الانجازات الاستراتيجية من الفرص التي لاحت بعد هجوم حماس على غلاف غزة. بمعنى آخر، تدرك إسرائيل أن المنطقة كلها غير مستعدة للرد بهجوم مضاد كاسح على ما تفعله، وليس هناك أية قوة في الإقليم قادرة على تعطيل الحركة الإسرائيلية في التوسع ومقابلتها بما يعاكسها وحرمانها من حرية الحركة، وهذا بالتحديد ما يمنح إسرائيل قوة في الحركة والمناورة على مساحة أوسع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ عياد البطنيجي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً