بقلم الأستاذ حسام بوزكارن*
لعلّ أهمّ ما يميّز هذه المرحلة التي تمرّ بها المملكة المغربية على الصعيد الدبلوماسي هو تلك اللحظة الفارقة التي نعيشها مع عودة دونالد ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض. نعم، إنها لحظة مفصلية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، خاصة وأن المغرب نجح خلال الولاية الأولى لترامب في تحقيق ما لم يحققه منذ عقود طويلة.
في العاشر من ديسمبر 2020، حقّق المغرب انتصاراً دبلوماسياً تاريخياً عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتراف بلاده الرسمي بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: كيف يمكن للمغرب أن يحوّل هذا الإنجاز من مجرّد موقف سياسي مرتبط بإدارة معينة إلى ثابت استراتيجي يتجاوز التقلبات السياسية في واشنطن؟
عندما غيّر ترامب قواعد اللعبة
لا يمكن فهم أهمية عودة ترامب للمغرب دون العودة إلى ما حدث في ولايته الأولى. فالاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء لم يكن مجرّد إعلان عابر، بل كان نتاج استراتيجية مغربية مُحكمة استغرق إعدادها سنواتٍ طويلة من العمل الدؤوب والتموقع الذكي في المشهد الدولي.
ما قاله ترامب آنذاك كان واضحًا ومباشرًا: “اقتراح المغرب الجاد والواقعي للحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ودائم”. هذه الكلمات لم تكن مجرد دبلوماسية مجاملة، بل كانت تعبيراً عن قناعة أمريكية حقيقية بعدالة الموقف المغربي.
والحقيقة أن هذا الاعتراف جاء في سياق أوسع شمل توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، مما جعل المغرب الدولة العربية الرابعة التي تطبّع علاقاتها مع إسرائيل في إطار ما سمي بـ “اتفاقيات إبراهيم”. كان الأمر أشبه بصفقة متكاملة حققت مصالح جميع الأطراف المعنية.
تحدي إدارة بايدن: بين الوفاء والحذر
مع وصول جو بايدن إلى الرئاسة في يناير 2021، واجه المغرب واحدًا من أصعب الاختبارات الدبلوماسية في تاريخه الحديث. فإدارة بايدن، التي جاءت بخطاب مختلف تمامًا عن سابقتها، كان من المتوقع أن تراجع العديد من السياسات التي وضعها ترامب.
لكن المثير للاهتمام أن إدارة بايدن، رغم حذرها الواضح، لم تتراجع عن الاعتراف بالسيادة المغربية. بل إن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس أكد صراحة أن “اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء يبقى موقفًا رسميًّا لواشنطن ولا يوجد أي تغيير بهذا الشأن”.
هذا التأكيد كان بمثابة انتصار دبلوماسي آخر للمغرب، أثبت أن المكاسب التي حققها لم تكن مجرد موقف ظرفي، بل أصبحت جزءًا من السياسة الأمريكية الرسمية.
عودة ترامب: نافذة جديدة من الفرص
اليوم، مع عودة ترامب إلى الرئاسة، يجد المغرب نفسه أمام فرصة ذهبية لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الدبلوماسية. فالرجل الذي اتخذ القرار الأصلي بالاعتراف بالسيادة المغربية يعود إلى منصبه وهو يحمل نفس القناعات والرؤية الاستراتيجية.
والمؤشرات الأولى مشجّعة جدًّا. فقد قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بنشر الخريطة الكاملة للمملكة المغربية مع الأقاليم الجنوبية عشية عودة ترامب إلى البيت الأبيض. هذا التصرف يحمل رسالة قوية مفادها أن الالتزام الأمريكي بالموقف المغربي لن يقتصر على التصريحات السياسية، بل سيترجم إلى إجراءات مؤسسية ملموسة.
كما أن مسعد بولس، مستشار الرئيس للشؤون الإفريقية والشرق أوسطية، أكد أن موقف واشنطن من قضية الصحراء “صريح جدًّا ولا يتخلله أيُّ شك أو لبس”. هذا الوضوح في الخطاب يشير إلى أن إدارة ترامب الثانية ستتجاوز الغموض الذي ميّز فترة بايدن نحو مرحلة التفعيل العملي.
التحديات لا تزال قائمة
لكن دعونا نكون واقعيين. الطريق أمام المغرب ليس مفروشًا بالورود، والتحديات لا تزال قائمة على أكثر من صعيد. فعلى المستوى الإقليمي، تواصل الجزائر معارضتها الشديدة للموقف الأمريكي، حيث تصرّ على أن اعتراف ترامب بالسيادة المغربية “ليس له أيّ أثر قانوني”. هذا الموقف الجزائري المتصلب يعني أن التوتر الإقليمي سيستمر، وأن المغرب بحاجة إلى استراتيجية محكمة للتعامل مع هذه المعارضة.
على الصعيد الدولي أيضًا، يواجه المغرب تحدي توسيع دائرة الاعتراف الدولي بسيادته على الصحراء. فرغم النجاح في كسب الدعم الأمريكي، تبقى مواقف القوى الدولية الأخرى، خاصة الأوروبية، تتطلّب جهودًا دبلوماسية مكثفة ومتواصلة.
الاستراتيجية المطلوبة: من النجاح إلى الترسيخ
لكي يستفيد المغرب إلى أقصى حدّ من هذه الفرصة الترامبية الثانية، عليه أن يعمل على محاورَ عدة في آن واحد.
أولا، يجب التركيز على التفعيل المؤسسي للاعتراف الأمريكي. لا يكفي أن يبقى الاعتراف مجرد موقف سياسي، بل يجب ترجمته إلى إجراءات عملية ملموسة. وهنا نتحدث عن تفعيل القنصلية الأمريكية في الداخل، والتي تنتظر التشغيل منذ سنوات، وتطوير التعاون الأمني والاقتصادي في الأقاليم الجنوبية.
ثانيا، يجب العمل على توسيع دائرة الاعتراف الدولي باستثمار النفوذ الأمريكي لحث دول أخرى، خاصة الحلفاء في حلف الأطلسي، على اتخاذ مواقف مشابهة أو داعمة على الأقل.
ثالثا، تعزيز البعد التنموي والاقتصادي من خلال تطوير الأقاليم الجنوبية كنموذج للتنمية المستدامة والاستقرار، وجذب الاستثمارات الأمريكية والدولية إليها. فالواقع على الأرض أهم بكثير من المواقف السياسية.
رابعا، بناء شراكة استراتيجية شاملة مع الولايات المتحدة تتجاوز ملف الصحراء لتشمل الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا. فالعلاقات القوية لا تبنى على ملف واحد، مهما كانت أهميته.
نحو مستقبل أكثر إشراقا
في النهاية، يقف المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية لا تتكرر كثيرًا. عودة ترامب إلى الرئاسة ليست مجرد استمرار للدعم الأمريكي، بل هي فرصة لتعميق هذا الدعم وتحويله إلى شراكة استراتيجية حقيقية ودائمة.
المطلوب الآن هو رؤية استراتيجية طموحة وعملية في الوقت نفسه، رؤية تتجاوز الاكتفاء بالمكاسب المحققة إلى البناء عليها وتطويرها. فالمعادلة المغربية الجديدة لا تقوم فقط على استثمار الرصيد الترامبي، بل على تحويل هذا الرصيد إلى أساس متين لشراكة مع أقوى دولة في العالم.
إذا نجح المغرب في هذا التحدي، فسيكون قد كتب صفحة جديدة مشرقة في تاريخ دبلوماسيته، صفحة تؤكد قدرته على التموقع الذكي والاستفادة من التحولات الكبرى لخدمة مصالحه الوطنية العليا، والمؤشرات حتى الآن تبدو إيجابية جدًّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ حسام بوزركارن– كاتب و باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
