بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
الأرض التي كانوا يصفونها بأنها أرض المن والسلوى، وبلاد السمن والعسل، فحلموا بها وتطلعوا إليها، ورحلوا إليها واستوطنوا فيها، وطردوا أهلها منها واغتصبوا حقوقهم ودنّسوا مقدساتِهم، وقالوا عنها إنها أرض الآباء والأجداد، وإن فيها آثارهم وتحت ثراها دفنت أجيالهم، وإنها قلب ممالكهم الأولى وموطن أنبيائهم ومهوى ملوكهم، وإنهم لن يتركوها ولن يتخلوا عنها، ولن يقاسمهم فيها أحد أو يشترك معهم في العيش فيها شعبٌ آخر، فقاتلوا لتحقيق هدفهم وخاضوا الحروب من أجله، واستقدموا مئات الآلاف من المهاجرين إليها، وعبّدوا الطريق أمامهم وأغدقوا العطاء لهم، وأغروهم بما يحلمون به وأفضل، ووعدوهم بالمزيد وأكثر.
اليوم تغدو الأرض نفسها في عيونهم أرضاً أخرى، مختلفة عما كانوا يحلمون بها ويتمنون العيش فيها، ولا تشبه الصور التي قرأوا عنها وعملوا على استعادتها، وهي لم تعد أرضاً جاذبة لهم بل أصبحت طاردة لأبنائهم، ومنفّرةً لأجيالهم، وغير مريحة لحلفائهم، ولا تغريهم بالبقاء والتمسك بها، ولا تساعدهم على العيش فيها والتضحية في سبيلها أو الفناء من أجلها، إذ لم يعد فيها نعيم يرتجى ولا استقرار يبتغى، فهي تحت أقدامهم تتزلزل ومن حولهم تشتعل ناراً وتتفجر لهيباً، وعلى أطرافها يُنهشون وفي قلبها يُقتلون، والحياة داخلها تفسد وقيمها تتعفن، وقادتها يفسدون ولا يصلحون، ويستأثرون ولا يؤثرون، ويتآمرون ولا يتعاونون.
دبّ اليأس في قلوب المستوطنين واستوطن فيها العجز، ولم يعد فيها مكان للأمل العتيد ولا للحلم القديم، فقد بددت التحديات أحلامهم، كما مزّقت جمعهم وفرّقت صفهم، وزرعت بينهم بذور الفتنة والخلاف والخصومة والنزاع، فها هي شوارع مدنهم تغص بعشرات آلاف المتظاهرين المعارضين لحكومتهم، والمناهضين لسياستهم، والمخالفين لبرامجهم الإصلاحية وتغييراتهم القضائية الجذرية، بينما تقوم قوات الشرطة بتفريقهم بالقوة ومنعهم من التظاهر بعنفٍ، مستخدمةً ضدهم الهراوات والعصي، والغازات المُدمعة والمياه العادمة، والخيول التي تجوس بينهم وتدوسهم، وتشتت جمعهم وتبعثر مجموعاتهم، في ظل دعوات وزير أمنهم القوي بتوقيف قادتهم ومحاسبة مسؤوليهم، وإلزامهم بتعهداتٍ تمنع تظاهرهم.
حالة الاستنفار الدائمة والتأهب القصوى التي يعيشها الكيان على مدى الساعة تربك المستوطنين، وتجعلهم في حالة خوفٍ دائمٍ وقلقٍ مستمر، وصافرات الإنذار التي لا تكاد تصمت حتى تعود وتنطلق من جديدٍ في أكثر من مكان، والتدافع اليومي نحو الملاجئ والأماكن المحصّنة والبيوت الآمنة تسبب لهم ذعراً وصدماتٍ نفسيةً شديدة، وإرشادات الحماية وتعليمات النجاة تجعلهم يعيشون كوابيسَ في الليل والنهار، وكأنّ الهجوم عليهم قد بدأ وساعة المواجهة قد دنت، الأمر الذي يدفع بمئات الآلاف منهم إلى الهجرة والمغادرة، و هذا هروبٌ وفرارٌ، إذ لم تعد حياتهم في الكيان تستحق هذه المعاناة المستمرة وهذا النزف اليومي المميت.
أما عجز الجيش عن حماية المستوطنين وتأمين حياتهم وأعمالهم، وفشله المتكرر في تحقيق أهدافه، وتآكل قدرته على الردع، وخسارته لهيبته وفقدانه لمكانته، وعزوف الكثير من الشباب عن الالتحاق به وتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية فيه كواجبٍ وطني، فيما تسميه رئاسة الأركان الإسرائيلية “فقدان الدافعية”، فقد بات يشكل خطراً على مكانة الجيش وجاهزيته، ويهدّد قدرته، ويشكّك في وظيفته، ويمس قدسيته، مما دفع بقطاعاتٍ واسعة من الإسرائيليين للإحساس بالخوف من المستقبل، والقلق على الوجود، وهم يرون جيشهم يتفكك، وردعه يتآكل، وصورته تهتز، وهو الذي اعتمدوا عليه أساساً في قيام دولتهم وتأمين مستقبلهم.
يتساءل كثيرٌ من الإسرائيليين ما الذي يبقيهم في أرضٍ لم تعد آمنة، وفي بلادٍ لم تعد محصنة، وفي منطقةٍ محاطة بالأعداء، ومطوّقة بآلاف الصواريخ الدقيقة المدمرة، ولماذا يُكتب عليهم الموت على أيدي قوى المقاومة العربية والفلسطينية، التي باتت قادرة على الوصول إليهم وتهديدهم، واستهداف مقراتهم ومؤسساتهم، وقد أصبح لديها أسلحة مميتة كثيرة ومتنوعة، ولديها كامل الجاهزية، قدرةً وقراراً، واستعداداً مادياً ومعنوياً تاماً على تنفيذ وعودها، وقد أصبح خطرها أشد عندما رفعت شعار “وحدة الساحات” وعملت به، وأكدت على مفهوم تزامن النار على كل الجبهات، وهي جادةٌ فيه وتتهيأ له.
ولما كان اليهود بفطرتهم يحبون المال ويحرصون على الدنيا، ويبذلون حياتهم وهم يستثمرون ويموتون وهم يراكمون الأموال، ويرابون ويجبون، ويراهنون ويرهنون، ويقامرون ويحجزون، وقد ظنوا لسنواتٍ أنّ كيانهم جاذبٌ لرؤوس الأموال وضامنٌ لها، وأنهم فيه يستطيعون العمل بحرية والاستثمار بأمان، وأن أموالهم فيه مضمونة وتجارتهم مكفولة ومصالحهم مصانة، والقوانين تحميهم والقضاء ينصفهم، والحرية تشجعهم، فإذا بهم فجأةً أمام قضاءٍ لا ينصفهم، وفي مواجهة قوانين لا تحميهم، وفي صراعٍ مع حكومةٍ تريد أن تجرّدهم، وتعمل على خسارتهم، وقد تسببت بسياساتها في انكماش الاقتصاد وتدهور العملة وجمود العجلة الاقتصادية وهروب الرساميل وأصحابها، فلماذا يبقون في كيانٍ لا يحفظ أموالهم، ولا يصون تجارتهم، ولا يضمن حقوقهم.
لا غرابة أن تسمع بعض الإسرائيليين يقولون لا نريد أن نموت هنا، ولا نستطيع أن نبقى ننتظر القتل الذي لا نعرف من أين سيأتينا، ولا نريد أن ندفن هنا كالغرباء، وأن تنبش قبورنا وتخرج منها عظامنا، فأجيالنا القادمة لن تعيش هنا، بل لن تقوى على البقاء هنا، ولن تستطيع حماية وجودنا، فشعب هذه الأرض لا يموت ولا يستسلم، ولا يذل و لا يخضع، ولا يضعف ولا يتراجع، ولا يقبل بالهزيمة ولا يعترف بالخسارة، وأجياله الجديدة أقوى ممن سبقها، وأكثر تمسّكاً بحقوقها من أجدادها، وهي تضحي بلا حدود، وتقاتل بلا يأس، وتتطلّع بيقين إلى النصر، وتؤمن أن الغد لها والمستقبل كله لها ولأبنائها من بعدها.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً