بقلم الأستاذ سرايش صدام حسين*
إشراف الدكتورة فاطمة الزهراء مسعودي*
لقد أدّت العقوبات الدولية المفروضة على روسيا، خاصةً بعد ضمّ شبه جزيرة القرم في عام 2014، وتصاعدت حدّتها بعد الغزو الشامل لأوكرانيا في عام 2022، إلى تأثيرات مركّبة على السياسة الروسية. ويمكن تحليل هذه التأثيرات من خلال منظورين رئيسيين: الصمود والتحديات.
من منظور الصمود
-تعزيز الشعور الوطني: ساهمت العقوبات في تعزيز الشعور الوطني والوحدة الداخلية لدى الروس، حيث صوّرت الحكومة العقوبات على أنها محاولة من الغرب لإضعاف روسيا والنيل من سيادتها. وقد استغلت الحكومة هذه المشاعر لحشد الدعم الشعبي لسياساتها.
-التركيز على الاكتفاء الذاتي: دفعت العقوبات روسيا إلى تبني سياسات تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض القطاعات الاقتصادية، مثل الزراعة والصناعات العسكرية. وقد حقّقت روسيا بعض النجاح في هذا المجال.
-توطيد العلاقات مع دول أخرى: سعت روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع دول أخرى غير غربية، مثل الصين والهند ودول الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، لتعويض خسارة الأسواق الغربية وتأمين مصادر بديلة للتجارة والاستثمار. وقد نجحت روسيا في بناء شراكات اقتصادية وسياسية مع هذه الدول.
-السيطرة السياسية: وفّرت العقوبات غطاءً سياسياً للحكومة لفرض مزيد من السيطرة على الاقتصاد والمجتمع، بحجة حماية البلاد من الضغوط الخارجية.
من منظور التحديات
-الضغوط الاقتصادية: على الرغم من صمود الاقتصاد الروسي بشكل عام، إلا أن العقوبات أدّت إلى ضغوط اقتصادية كبيرة. فقد تسبّبت في تقويض النمو الاقتصادي، وزيادة التضخم، وتقليل الاستثمار الأجنبي المباشر، وإعاقة الوصول إلى التكنولوجيا الغربية المتقدمة. كما أثّرت العقوبات على مستويات معيشة بعض الفئات من السكان.
-العزلة الدولية: أدّت العقوبات إلى زيادة عزلة روسيا على الساحة الدولية، حيث تمّ استبعادها من بعض المنظمات الدولية وتقييد مشاركاتها في المحافل العالمية. وقد أثّرت هذه العزلة على نفوذ روسيا وقدرتها على التأثير في القرارات الدولية.
-تحديات في السياسة الخارجية: واجهت روسيا تحدياتٍ كبيرةً في سياستها الخارجية نتيجة للعقوبات. فقد أدّت إلى تعقيد علاقاتها مع العديد من الدول، وخاصة في أوروبا، وأجبرتها على تخصيص موارد كبيرة لمواجهة التداعيات السلبية للعقوبات.
-احتمالية الانقسام الداخلي على المدى الطويل: قد تؤدي الضغوط الاقتصادية المتزايدة، على المدى الطويل، إلى تزايد الاستياء الداخلي وتآكل الدعم الشعبي للحكومة، مما قد يؤدي إلى تحديات سياسية داخلية.
إنّ تأثير العقوبات الدولية على السياسة الروسية معقّد ومتعدّد الأوجه. فبينما ساهمت العقوبات في تعزيز بعض جوانب الصمود الداخلي وتوجهات السياسة الخارجية، إلا أنها فرضت أيضاً تحدياتٍ اقتصادية وسياسية كبيرة على روسيا. من الصعب التكهُّن بشكل قاطع بالتأثيرات طويلة الأمد للعقوبات، حيث ستعتمد على عواملَ مختلفة، بما في ذلك مدّة العقوبات وشدّتها، وقدرة روسيا على التكيف معها، والتطورات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
من المهم الإشارة إلى أنّ النقاش حول فعالية العقوبات الدولية كأداة للسياسة الخارجية لا يزال قائماً، حيث يرى البعض أنها أداةٌ ضرورية للضغط على الدول لتغيير سلوكها، بينما يشكك آخرون في فعاليتها ويشيرون إلى آثارها الجانبية السلبية المحتملة.
بالتأكيد، دعنا نتعمق أكثر في تأثير العقوبات الدولية على السياسة الروسية من خلال استكشاف بعض الجوانب الإضافية وتوسيع النقاط التي تم ذكرها:
1-التأثير على القطاعات الاقتصادية الرئيسية
قطاع الطاقة: على الرغم من أن روسيا لا تزال مصدراً رئيساً للطاقة، إلا أن العقوبات فرضت قيودًا على صادراتها إلى أوروبا، مما أدى إلى سعيها لإيجاد أسواق بديلة في آسيا. هذا التحوّل يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية وقد لا يعوّض بالكامل خسارة السوق الأوروبية على المدى القصير والمتوسط. بالإضافة إلى ذلك، تحدُّ العقوبات من قدرة الشركات الروسية على الوصول إلى التكنولوجيا الغربية اللازمة لتطوير حقول جديدة واستخراج النفط والغاز بكفاءة.
القطاع المالي: أدت العقوبات إلى استبعاد العديد من البنوك الروسية من نظام SWIFT الدولي، مما يعيق قدرتها على إجراء معاملات دولية سلسة. كما تمّ تجميد أصول البنك المركزي الروسي في الخارج، مما قلّل من قدرته على التدخل لدعم الروبل. كل هذا أدى إلى تقلبات في قيمة العملة وزيادة تكلفة المعاملات التجارية.
قطاع التكنولوجيا: تحدّ العقوبات من وصول الشركات الروسية والمستهلكين إلى التكنولوجيا الغربية المتقدمة، بما في ذلك أشباه الموصلات والبرمجيات والمعدات المتخصصة. هذا يؤثر على قدرة روسيا في تطوير قطاعها التكنولوجي وتنويع اقتصادها.
القطاع العسكري: على الرغم من أن روسيا تعتمد بشكل كبير على إنتاجها المحلي من الأسلحة، إلا أن العقوبات تحدّ من قدرتها على استيراد بعض المكونات والتكنولوجيا الحيوية، مما قد يؤثّر على جودة وتطور بعض الأنظمة العسكرية على المدى الطويل.
2-التأثير على النخب السياسية والاقتصادية:
تضييق الخيارات: قد تجد النخب الروسية نفسها أمام خيارات محدودة نتيجة للعقوبات. فالعلاقات مع الغرب أصبحت أكثر صعوبة، مما يقلّل من فرص التعاون الاقتصادي والسياسي.
زيادة الاعتماد على الدولة: قد تزيد العقوبات من اعتماد النخب الاقتصادية على الدولة للحصول على الدعم والموارد، مما يعزز نفوذ الحكومة.
احتمالية الانقسامات الداخلية: على الرغم من الوحدة الظاهرية، قد تظهر انقسامات داخل النخب حول كيفية التعامل مع العقوبات وتداعياتها على المدى الطويل.
3-التأثير على الرأي العام:
تأثير قصير الأمد مقابل تأثير طويل الأمد: في البداية، قد تؤدي العقوبات إلى تعزيز الشعور الوطني والتفاف الشعب حول القيادة. ومع ذلك، إذا استمرت الضغوط الاقتصادية وتدهورت مستويات المعيشة على المدى الطويل، فقد يتغير الرأي العام ويظهر استياء متزايد.
دور الإعلام: تلعب وسائل الإعلام الحكومية دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام وتفسير العقوبات على أنها مؤامرة غربية. ومع ذلك، فإن الوصول إلى مصادر معلومات بديلة عبر الإنترنت قد يؤثر على تصورات بعض شرائح المجتمع.
4-دور العوامل الجيوسياسية:
الحرب في أوكرانيا: تعتبر الحرب في أوكرانيا العامل الرئيسي وراء تصاعد العقوبات، واستمرار الصراع وتصاعده سيؤثر بشكل كبير على طبيعة العقوبات ومدى تأثيرها.
تحالفات دولية: قدرة روسيا على بناء تحالفات مع دول أخرى والحفاظ عليها, ستلعب دوراً حاسماً في تخفيف آثار العقوبات.
التغيرات في السياسات الغربية: أي تغييرات في السياسات الغربية تجاه روسيا، بما في ذلك تخفيف أو تشديد العقوبات، سيكون لها تأثير مباشر على الوضع.
في الختام
إنّ تأثير العقوبات الدولية على السياسة الروسية يمثّل تفاعلاً ديناميكياً بين قدرة الدولة على الصمود والتكيف وبين التحديات الاقتصادية والسياسية المتزايدة. على المدى القصير، قد تبدو روسيا قادرة على تحمُّل الضغوط والحفاظ على استقرارها السياسي. ومع ذلك، على المدى الطويل، من المرجح أن تؤدي العقوبات المستمرة إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية وازدياد في عزلة روسيا الدولية، مما قد ينتج عنه تغييرات في أولويات السياسة الداخلية والخارجية. ويبقى السؤال مفتوحاً حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه التغييرات وتأثيرها النهائي على مستقبل روسيا وعلاقاتها مع دول العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سرايش صدام حسين-كاتب وباجث متخصص في الإعلام الإلكتروني والعلاقات الدولية.
*الدكتورة فاطمة الزهراء مسعودي–أستاذة محاضرة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة تلمسان (الجزائر).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً