بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
انشغل الفلسطينيون في غزة وفي كل مكانٍ آخر في العالم بالورقة المصرية التي تمّ تسريبها في الأيام القليلة الماضية، واهتموا بمتابعتها ومعرفة تفاصيلها ودراسة بنودها، وكثُرت التساؤلات عنها، وعن ضمانات تنفيذها، وعن المستفيدين منها، ومن الذي اقترحها وقدّمها، وهل هي مقترح مصري محض، أم أنها طلب إسرائيلي من مصر، وما إذا كانت مبادرةً جادةً أم أنها لتمرير الوقت واستمرار الحرب ومواصلة عمليات القصف، وغير ذلك من التساؤلات النابعة من الخوف والقلق، وعدم الثقة والطمأنينة لأكثر من سببٍ وسبب.
ولولا ثقة الفلسطينيين بمقاومتهم الوطنية الباسلة، التي أثبتت صدقها وجديتها، وأظهرت قوتها وفاعليتها، وقاومت العدو وصدّته، وقاتلته وأوجعته، وألحقت به خسائر فادحة في الأرواح والآليات، وسجلتها من أجلهم بالكاميرا، ووثقتها لهم بالصوت والصورة، لعلا صوتهم واحتد خطابهم في بيان رأيهم بشأن الورقة المقترحة، فهم الذين قدموا الضحايا، جرحىً وشهداءَ، وصبروا على المحنة واحتملوا المعاناة، وعضّوا على الجرح ولم يصرخوا، ولم يرفعوا أصواتهم ضد المقاومة ويضجوا، بل أظهروا ولاءهم لها واتفاقهم معها، واعتبروا أنفسهم جزءاً منها ومكمّلاً طبيعياً لها، فمن حقهم أن يكون لهم رأيٌ يُسمعُ ويحترم فيما يقدّم بشأنهم، وهم بلا شك على درجةٍ عاليةٍ من الوعي والإدراك، والخبرة والتجربة، ما يجعلهم قادرين على معرفة مصالحهم وتقرير مصيرهم.
لكن ما يهمهم ويقلقهم، وما يرغبون في التأكيد عليه وبيانه، أنهم وبعد كل هذه التضحيات التي قدموها، والخراب المهول الذي حلّ بقطاعهم الحبيب، والتدمير الواسع الذي طال كل أنحائه، فإنهم وإن كانوا يتطلعون بشغفٍ إلى إنهاء الحرب ووقف القتال، ووضع حدٍ لكل عمليات القتل والقصف والتدمير، إذ هذا هو حلمهم ومنتهى آمالهم بعد ثلاثة أشهر من العدوان المجنون والقصف الهمجي الحاقد، الذي أفقدهم أولادهم وآباءهم، وأحبابهم وإخوانهم، وأطفالهم وقرّة عيونهم، إلا أنهم لا يريدون أن يخسروا بالاتفاق ما لم يخسروه بالحرب، ولا يريدون أن يفرّطوا في أمانة من سبقوا وحلم من ضحوا، فأولئك لهم عليهم حق الوفاء بعهودهم، وحفظ أماناتهم، والعمل على تحقيق ما تطلعوا إليه واستشهدوا من أجله.
يتطلع عامة الفلسطينيين إلى أن تأخذ المقاومة برأيهم، وأن تستأنس بموقفهم، وألا تهمل مطالبهم، وألا تستخفّ بحكمتهم، وألا تطمئن إلى مفاوضهم، أو تركن إلى من يدعي الحرص عليهم والخوف على مصالحهم، وألا يطمئنوا إلى وعود العدو ومواثيقه، فهو أسرع من يغدر، وأول من ينكث، وآخر من يفي ويلتزم، والتجارب معه كثيرة، والخبرة فيه كبيرة.
ويريدون من مقاومتهم الوطنية أن تعتمد بعد الله عز وجل على صبرهم، وأن تصر على مطالبهم وفاءً لهم وحرصاً عليهم، فهم أصحاب القول الفصل والكلمة الأخيرة، ولا يقدم عليهم أحد، ولا يعرف حاجتهم أكثر منهم أحد، فلا يفرط المفاوضون في شيءٍ حرصاً عليهم، ولا يتنازلون عن حقٍ خوفاً عليهم، ولا يأمنون للعدو فيتركونهم نهباً له، يتسلط عليهم ويستفرد بهم، ويغدر بهم ويعود إلى قصفهم والغارات عليهم، وقد سبق له أن استغل المفاوضات السابقة والهدن المؤقتة في استهدافهم وقتل المزيد منهم.
أما مطالبهم فهي واضحة صريحة، ومباشرة محددة، وهي خمسةٌ واضحة أولاها وقف العدوان الإسرائيلي الأمريكي على قطاع غزة، ووضع حدٍ نهائي لكافة العمليات الحربية، ووقف عمليات التجسس والطيران المسيّر المزعج والمقلق، وانسحاب جيش العدو من قطاع غزة إلى ما قبل يوم الثامن من أكتوبر، وفتح الطريق من الجنوب إلى الشمال باتّجاهيه، وعدم المساس بالمواطنين العابرين في شارعيه الرشيد وصلاح الدين، وأي طريقٍ فرعيٍ آخر، والسماح بفتح معبر رفح بشقيه التجاري والمخصص للمسافرين، وتمكين قوافل المؤن والإغاثة والوقود والمساعدات من الدخول إلى قطاع غزة، دون إخضاعها لضوابط العدد والكمية.
أما المطلب الخامس والأخير الذي يصرّ عليه الفلسطينيون ويؤكدون على عدم التفريط به أو التهاون في المفاوضات حوله، فهو ملف الأسرى والمعتقلين الإسرائيليين، الذي يجب أن يكون آخر الملفات المفتوحة، وبوابة الملفات الأخرى المعلّقة، وألا يكون فقط محدداً بموضوع “الكل مقابل الكل”، فهذا أمرٌ متفقٌ عليه ولا خلافَ حوله، فلن يقبل أن يبقى في السجون الإسرائيلية معتقلٌ فلسطيني بعد تمام هذه الصفقة، بمن فيهم الأسرى الجدد بعد السابع من أكتوبر من قطاع غزة والضفة الغربية.
لكن يجب رهن هذا الملف بحل كل القضايا الأخرى العالقة، كرفع الحصار وفتح المعابر، والاتفاق على ميناء والمباشرة في إعادة الإعمار، وضمان عدم العودة إلى الاعتداء، وإلا فإن العدو الذي نعرف غدره وندرك خبثه، فإنه سيأخذ أسراه، وسيستعيد جنوده وضباطه، ثم سينقلب على الاتفاق ويعود إلى الحرب، ومواصلة القتل والعدوان، وسيكون حينها أشد فتكاً بالقطاع وأكثر إجراماً، لهذا فلنصغِ إلى الشعب ولنحترم رأيه، ولنستمع له ولنستجب لنصحه، فمنه الحكمة وعنده التجربة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً