بقلم الدكتور آصف ملحم*
لم يكد يمضي سوى أسبوعين على القمّة التاريخية التي جمعت الرئيس الأمريكي مع رئيس الوزراء الياباني (فوميو كيشيدا) والرئيس الكوري الجنوبي (يون سوك يو) حتى أطلقت روسيا إشارة تحذير لطوكيو مباشرةً ولسيؤول وواشنطن بشكل غير مباشر. فلقد دعا ديميتري ميد فيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، من مدينة يوجنو-ساخالينسك، أقرب المدن الروسية إلى اليابان، طوكيو إلى التخلي عمّا سماه (العسكرة الجديدة) والتّعلّم من دروس الحرب العالمية الثانية. جاء ذلك أثناء الاحتفال بذكرى النّصر على اليابان الاستعمارية (المتعسكرة) في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وفقاً لميد فيديف، فإن اليابان توسّع من بناها التحتية العسكرية، وتشتري معداتٍ وأسلحةً أجنبية، بما في ذلك أسلحة هجومية، ويتمّ إلغاء محدّدات ما يسمى قوة الدفاع الذاتي والعمليات العسكرية في الخارج، كما أنه يتمّ إجراء مناورات عسكرية بالقرب من جزر الكوريل المتنازَع عليها بين روسيا واليابان.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنه لم يكن يُحتفل سابقاً بذكرى النصر على اليابان في الحرب العالمية الثانية؛ بل إن مجلس الدوما الروسي في 20 يونيو 2023 أدخل تعديلاتٍ على القانون المتعلّق بالأعياد الوطنية في روسيا؛ فكان اليوم الـثالث من سبتمبر يُسمى (يوم المجد العسكري) ليصبح (يوم النصر على اليابان الاستعمارية (المتعسكرة). الرئيس بوتين وقّع على هذه التعديلات بتاريخ 24 يونيو 2023. هذه التعديلات بحدّ ذاتها تُخفي حالة من (العداء بين الطرفين).
حول هذا الموضوع، علّق وزير الخارجية الياباني قائلاً:” احتفال روسيا بيوم النصر على اليابان العسكرية سيُحرّض (المواجهة الانفعالية) بين شعبي البلدين”. ردّت المتحدّثة باسم الخارجية الروسية بدورها عليه بسؤالٍ:
ألن تحرّض العقوبات اليابانية غير القانونية ضد الشعب الروسي على ذلك أيضاً؟
في الواقع، لم يُخفِ أعضاء التحالف الجديد (mini-NATO) أهدافهم الحقيقية، على الرغم من الخلافات الشديدة التي كانت تعصف بين كوريا الجنوبية واليابان؛ فقبل سنة من الآن كان هنالك صعوبة بالغة في تنظيم مثل هذه القمّة، بسبب الماضي المثقل بالحروب بينهما. لقد أعلن الأطراف الثلاثة بوضوح أنّ الهدف من هذا التحالف هو تعزيز الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادي، كما أنّ التصدي للبرامج النووية والصاروخية الكورية الشمالية وردع الصين والأمن الاقتصادي هو أحد أهداف هذا التحالف.
اتفقت الأطراف الثلاثة على مجموعة من النقاط، سنستعرضها باقتضاب:
-عقد اجتماعات سنويّة بين هذه الدول الثلاث.
-القيام بمناورات وتدريبات في شبه الجزيرة الكورية.
-تبادل المعلومات العسكرية.
-تبادل المعلومات حول التجارب الصاروخية الكورية الشمالية.
-التعاون في مجال الأمن السيبراني.
-التعاون الصناعي.
للوهلة الأولى، قد يكون من الصعب فهم ماهيّة هذا التحالف، وما هي الآليات التي سيتّبعها لتحقيق أهدافه الغريبة. هناك اتفاقيات ثنائية بين واشنطن وطوكيو وسيؤول كل على حدة، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها الثلاثة معاً، فما هي الدوافع التي أدت إلى بزوغ هذه الفكرة؟
يعتقد بعض المحللين أنّ الحرب الروسية-الأوكرانية عزّزت المخاوف من إمكانية التّدخل العسكري الصيني في تايوان، الأمر الذي ساعد في إنضاج فكرة إنشاء مثل هكذا تحالف، وقوّى الرأي العام الياباني والكوري الجنوبي بضرورة التقارب بينهما من جهة، وتقاربهما مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية.
يبدو بوضوح، أن عامل الخوف هو الدافع الرئيس لهذه الدول لتشكيل هذا التحالف. على هذه الخلفية، تبرز الأسئلة الآتية:
هل حقيقةً هنالك نيّة صينية لغزو تايوان أو غزو إحدى جاراتها؟
وهل سيكون تحالف جيران الصين مع الولايات المتحدة عاملَ استقرار أم اضطراب في المنطقة؟
وما هي أسباب خوف الدول الصغيرة المجاورة للصين من الصين؟
وفيما يتعلق بتايوان، أليست الولايات المتحدة نفسها من تقول بأننا نعترف بمبدأ (الصين الواحدة)، وفي نفس الوقت لا يكفّ مسؤولوها عن الزيارات الاستفزازية لتايوان وإرسال شحنات المساعدات العسكرية إليها؟
في الواقع، تحوّلت الصين إلى عملاق اقتصادي في العقود الأخيرة، فهي ترتبط بعلاقات اقتصادية معقّدة مع معظم دول العالم. وليس هذا فحسب، بل إن العديد من دول العالم ترغب باستقدام الاستثمارات الصينية إليها، وهي تدخل إلى هذه البلدان على قاعدة الشراكة. لذلك يبدو بوضوح أن الصين ستتربع على عرش الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة، وستزيح الولايات المتحدة من الواجهة.
على هذه الخلفية، يبرز السؤالان الهامّان التاليان:
لماذا على الولايات المتحدة أن تقلق من ذلك؟
أليس علينا جميعاً أن نحترم مبدأ (التنافس الشريف)؟
أعتقد أن الجواب على السؤال الأخير يختصر الموضوع؛ فالولايات المتحدة، ومعها بعض الدول الأوروبية ذات التاريخ الاستعماري، اعتادت على تطبيق سياساتها وإنفاذ خططها بكل الطرق الملتوية. فهم يخرقون نصوص القانون الدولي عندما يكون لهم مصلحة في ذلك، ويتّبعون سياسات مزدوجة المعايير في التّعامل مع الدول الأخرى. كما أنهم يتدخلون في سياسة الدول لإرغامها على القبول بشروطهم، حتى لو كانت تتعارض مع مصالح تلك الدول.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ أن تمّ طرح عقيدة ترومان وخطة مارشال، اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية المبدأ القائل بـأنه (للولايات المتحدة الأمريكية مصالح قومية ومصالح خارجية)، والتخطيط السياسي يجب أن يقوم على نوع من التوفيق بينهما. وعلى الرغم من أن المواطن الأمريكي نفسه غير مقتنع بذلك، ولكن الولايات المتحدة حافظت على هذا الخط دائماً. لذلك تقوم الإدارات الأمريكية بتغذية الصراعات وخلق بؤر التوتر مع دول الجوار المنافسة لها، الأمر الذي يمنحها القدرة على التدخل في سياسات الدول الأخرى والتحكم بقراراتها والضغط عليها للقبول ببعض التنازلات لصالح واشنطن.
يستند التأثير الخارجي الأمريكي في العالم على ثلاث قوائم:
-الشرق الأوسط
-أوروبا وتركيا
-منطقة آسيا والمحيط الهادي
اهتزت القائمة الأولى بعد خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، كما أن القائمة الثانية تَبيّن أنها غير متينة بعد قيام روسيا بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. لذلك يعتقد البعض أن إدارة بايدن حاولت إنشاء هذا التحالف الهش مع اليابان وكوريا الجنوبية لأسباب انتخابية؛ أي بهدف إرسال رسالة إلى الشعب الأمريكي، مفادها أن الإدارة الأمريكية ما زالت قابضة على زمام الأمور في العالم.
هذا الرأي لا يجانب الصوابَ، فزيادة التّوتر في هذه المنطقة الحيوية والهامّة سيؤدي إلى هزات اقتصادية عنيفة في العالم، ستكون الحرب الروسية-الأوكرانية معها مجرّد مزحة. وهذه المسألة لا يختلف عليها اثنان؛ لذلك لاحظنا التوجّس والحذر الأوروبيين في التعامل مع الصين أو عسكرة هذه المنطقة.
من جهة أخرى، أي بالنظر إلى روسيا، فإن غياب معاهدة سلام بينها وبين اليابان يطغى على العلاقة بينهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. العائق الوحيد هو مسألة جزر الكوريل الجنوبية، وهي: إيتوروب، كوناشير، شيكوتان، خابوماي. تدّعي طوكيو بأن هذه الجزر جزءٌ من سيادتها، اعتماداً على معاهدة للتجارة والحدود في عام 1855. في حين أن موسكو تعتبر أن هذه الجزر أصبحت جزءاً من السيادة الروسية كنتيجة للحرب العالمية الثانية.
في عام 1956، أصدر الاتحاد السوفيتي واليابان إعلاناً مشتركاً، وافقت موسكو فيه على إعطاء اليابان جزيرتي خابوماي و شيكوتان بعد توقيع معاهدة السلام بينهما. ولكن لم يتم تحديد مصير جزيرتي إيتوروب و كوناشير. ولكن المحادثات اللاحقة لم تؤدِّ إلى أي نتيجة، وليس من المستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد هدّدت اليابان بعدم إعادة جزيرة أوكيناوا في حالة موافقتها على ذلك.
استناداً إلى ما تقدم، فإننا نعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بتسخين هذه الجبهة شيئاً فشيئاً، بهدف احتواء الصين من جهة، وإضعاف روسيا من جهة ثانية. من هنا نفهم الهدف من زيارة وزير الدفاع الروسي إلى كوريا الشمالية، والتي جاءت بعد انقطاع لمدة 33 سنة. إذ تؤكد بعض التسريبات أن روسيا وكوريا الشمالية تُحضّران جيشاً قوامه 300 ألف مقاتل، وهو مزوّد بالأسلحة والمعدّات بنسبة 60% حتى الآن.
بناءً على ذلك، يبرز السؤال الهامّ الآتي:
هل ستنفجر هذه المنطقة، وسنجد أنفسنا في مواجهة مباشرة بين هذه الأطراف في المستقبل؟
والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال صعب للغاية الآن، لذلك سنتركه للأيام القادمة!
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً