بقلم الدكتور يونس الديدي*
في ظل التوترات المتصاعدة على الحدود السورية-اللبنانية، تبرز مخاوف من أن تُجر المنطقة إلى حرب أهلية جديدة، لن تخدم إلا مصالح الكيان الإسرائيلي. هذا السيناريو، إن تحقق، سيمنح إسرائيل فرصة لالتقاط أنفاسها بعد حملاتها العسكرية المتواصلة، وخاصة الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة حتى اليوم، 17 مارس 2025. الهدف الإسرائيلي واضح: تصوير المنطقة على أنها فوضوية بطبعها، مما يوفر مبرراً لجرائمها، بما في ذلك منع المساعدات الغذائية عن سكان غزة، في محاولة لكسر إرادتهم.
الوضع الحالي في غزة كارثي. منذ أكتوبر 2023، شنّت إسرائيل هجوماً وحشياً أودى بحياة عشرات الآلاف، معظمهم من الأطفال والنساء، ودمرت البنية التحتية بشكل منهجي. الحصار المفروض على القطاع، ومنع المساعدات الإنسانية، يشكّلان جزءاً من استراتيجية تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين. لكن السؤال المُلحّ هو: هل يمكن أن تتكرر هذه الصورة في لبنان وسوريا إذا ما اندلعت حرب أهلية؟ الإجابة ليست بسيطة، لكن المستفيد الأكبر من هذا التصعيد لن يكون سوى إسرائيل.
جذور التوترات وتعقيدات الجبهتين
العلاقة بين لبنان وسوريا معقدة تاريخياً وسياسياً. خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، لعبت سوريا دوراً محورياً، سواء كوسيط أو كطرف متدخّل، مما أدى إلى هيمنتها على لبنان لعقود. اليوم، مع انهيار النظام السوري في ديسمبر 2024، وصعود قوى جديدة، تتزايد التوترات الحدودية. النقاط الساخنة، مثل منطقة البقاع أو الحدود الشمالية الشرقية، قد تتحول إلى بؤر صراع إذا لم تُحتوَ بحكمة. لكن استدراج الطرفين إلى نزاع داخلي لن يخدم إلا أجندة خارجية، تتقاطع مصالحها مع الرواية الصهيونية.
إسرائيل، التي طالما استغلت الفوضى الإقليمية لتعزيز موقعها، ترى في أي صراع داخلي فرصة ذهبية. سوريا الحالية، بعد سقوط نظام بشار الأسد، أضعفت قدراتها العسكرية وأنهت وجودها كحليف استراتيجي لحزب الله. هذا الواقع يعطل خطوط الإمداد إلى لبنان، ويترك الحزب في موقف دفاعي. لكن إشعال حرب أهلية بين البلدين سيضمن لإسرائيل استقراراً طويل الأمد على حدودها الشمالية، دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة.
مصالح مشتركة ودور العقلاء
على العقلاء في سوريا ولبنان أن يدركوا أن المصالح المشتركة بينهما تفوق أي خلافات حدودية أو سياسية. الاستقرار الإقليمي، والحفاظ على سيادة البلدين، يشكلان حائط صدٍّ ضدَّ الطموحات الإسرائيلية. الكيان الصهيوني لا يهمه لا لبنان ولا سوريا كدول مستقلة، بل يراهما كعقبات في طريق مشروعه التوسعي. اليمين المتطرف في إسرائيل، بقيادة شخصيات مثل بنيامين نتنياهو، يمتلك روحاً مريضة تسعى لتكرار نموذج غزة في أي منطقة تجاورها، إذا أتيحت له الفرصة.
لكن هذا السيناريو ليس قدراً محتوماً. الجبهة السورية-اللبنانية معقدة للغاية، بسبب التعددية الطائفية والسياسية، والتوازنات الدقيقة التي تحكمها. إسرائيل، رغم ادّعاءاتها الإعلامية بقدرتها على خوض جبهات متعددة، لم تصل بعد إلى مرحلة الانخراط الكامل في صراعات متزامنة. الجبهة اللبنانية، بقيادة حزب الله، كانت الأكثر حضوراً في السنوات الأخيرة، تلتها الجبهة اليمنية بمساندة الحوثيين. أما الجبهة السورية، فلم تنخرط بشكل مباشر حتى الآن، رغم وجود نقاط ساخنة قد تنفجر في أي لحظة.
لعبة خلف الستار
الهجوم الإسرائيلي الأخير على اليمن، بالتزامن مع التوترات السورية-اللبنانية، والضربات الأميركية التي استهدفت اليمن يشير إلى وجود لعبة أكبر خلف الستار. هذه التحركات تبدو مُتّسقة مع استراتيجية تهدف إلى تعويم فشل إسرائيل في غزة، حيث لم تنجح في تحقيق أهدافها المعلنة، مثل القضاء على حماس أو استعادة الأسرى. بدلاً من ذلك، تلجأ إلى تصعيد التوترات في جبهات أخرى لصرف الأنظار عن إخفاقاتها، وتبرير استمرار الإبادة الجماعية في القطاع.
الرواية الصهيونية تستفيد من أي فوضى إقليمية لتقديم نفسها كـ”واحة استقرار” في بحر من الاضطرابات. هذا الخطاب، الذي طالما روّجته إسرائيل للغرب، يعتمد على تصوير العرب كشعوب غير قادرة على الحكم الذاتي. لكن الحقيقة أن إسرائيل هي من تسعى لخلق هذه الفوضى، سواء عبر دعم فصائل متضاربة أو عبر ضربات عسكرية مباشرة.
ضرورة الحكمة والوحدة
في هذا السياق، يصبح من الضروري على سوريا ولبنان أن يتجنّبا الانزلاق إلى حرب أهلية. فهْمُ جذور التوترات، والتركيز على المصالح المشتركة، كفيلان بحرمان إسرائيل من الاستفادة من هذا الوضع. الشعب السوري واللبناني، اللذان عانيا من ويلات الحروب والتدخلات الخارجية، يمتلكان القدرة على الصمود إذا عملا معاً لمواجهة التحديات المشتركة. إسرائيل قد تظن أنها قادرة على استغلال الفوضى، لكن تعقيدات المنطقة وصمود شعوبها قد يفشلان خططها مرة أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً