بقلم الدكتور محمدعياش*
هزّة من هزات الزلازل يمكن تقدير قوتها حسب مقياس الحزب الجمهوري الأمريكي المنقسم على نفسه، واسم هذه الهزّة كيفن مكارثي، رئيس مجلس النواب الأمريكي المعزول، الذي حاول السير على رأس أصابع قدميه في ظرف يتسم بالمتناقضات وتعقيدات المشهد الداخلي الأمريكي، وخصوصاً مع ظاهرة الرئيس البوليميكي (السجالي) دونالد ترامب.
عُرف عن مكارثي بأنه رجل مبادئ ولكنه عانى الجمع بين مبادئه ومصالحه، إذ عارض إلقاء خطاب الرئيس الأوكراني فلاديمور زيلنسكي أمام الكونغرس خشية إغضاب معارضي الدعم الأمريكي لأوكرانيا داخل الحزب الجمهوري الذي يمثله، وبالتالي فإن اللقاء مع زيلنسكي بعيداً عن الكونغرس وإظهار تأييده ودعمه القوي له هو بمثابة الحرص على الجمع بين المتناقضات واختلاط المبادئ والمصالح.
مؤشرات التناقض التي سار عليها مكارثي واضحة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، انتقاده للجماهير الغاضبة التي اقتحمت الكونغرس وأعلنت تأييدها لـ ترامب، وبعد هذه الحالة سافر لولاية فلوريدا ليحصل على دعم الرئيس ترامب واعترافه له بزعيم الجمهوريين.
مكارثي ضحية التناقضات الحادة في صفوف الجمهوريين، إذ يفتقد للدعم والمساندة، ما اضطره لمغازلة الشعبويين من جهة والمحافظة على منصبه من جهة أخرى، إلا أن هذه التناقضات في هذه الظروف قد تكون مهارة تكتيكية، ولكن في ظل الانقسامات العامودية والأفقية التي تنخر جسم الحزب الجمهوري تعد انتحاراً مع سبق الإصرار، ناهيك عن التربص له من الحزب الديمقراطي واستغلال السقطات والأخطاء لما يمثله من تنافس وإقصاء.
مكارثي من الجمهوريين الكلاسيكيين المعتدلين المؤمنين بدور أميركا في العالم، ولهذا هو أحد المؤيدين لخطة الرئيس جو بايدن لدعم أوكرانيا بالسلاح رغم تراجع معدلات دعمها في الحزب الجمهوري. في المقابل صعود الشعبويين الانعزاليين الذين يطالبون بوقف الدعم وصرف الأموال داخلياً على الحدود ودعم الاقتصاد، يعارض الدور الأميركي العالمي، ويطالب بسحب القوات من كل مكان والعودة للداخل الأهم. ترامب يستخدم هذا الخطاب القومي لتلميع صورته أملاً في أن يعيده للبيت الأبيض. هذا الخطاب الانعزالي أكسب شعبية واسعة لأوباما الذي طالب ببناء الداخل وليس الديمقراطيات في الخارج، ومن ثم مع شعار أميركا أولاً، والآن أصحاب الألسن الطويلة، ومن بينهم إيلون ماسك الذي سخر من الرئيس زيلينسكي قبل أيام.
يعتقد مكارثي بأنه رجل دولة، وعلاقته مع المؤسسة الدفاعية والأمنية قوية، وهذا ما يراه ترامب وأنصاره خطيئة؛ لأن خطابهم قائم على العداء مع واشنطن المؤسسة، وهدفهم تنظيفها من الشوائب. عزله يعني هزيمة الخط المعتدل بين الجمهوريين وفوز الشعبويين. وسيضعف ذلك من أنصار السياسة الخارجية الأميركية التدخلية التي شكلت صورة العالم الذي نعيشه.
قضية مكارثي تعطي صورة واضحة للداخل الأمريكي، وتعكس مدى تأثير السياسة الخارجية عليه من خلال الحروب القائمة والقضايا العالقة، إذ باتت واشنطن مقتنعة بأن إظهار القوة الاقتصادية والعسكرية في هذه الظروف ضرورية، وبالتالي لا مجال للأشخاص الذين يعيشون على المبادئ والقناعات الشخصية إذا لم توظف وتترجم مع المزاج الأمريكي القائم على الثبات بقيادة العالم وعدم السماح لأي قوة أن تشاركها.
الولايات المتحدة أمام امتحان كبير وكبير جداً، نتائج سياساتها الخارجية تلقي بظلالها على الداخل مع حدوث انقسامات بكل الاتجاهات. وهذه فترة عصيبة تتطلب المشي على حبال مشدودة وأعصاب باردة للحفاظ على الوضع القائم أو تضيع الفرصة من غير رجعة وهذا ما تتمناه كل دول العالم وشعوبها.
= = = = =
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً