بقلم الدكتور آصف ملحم*
يتصاعد يوماً بعد يوم الحديث عن السلاح النووي و إمكانية استخدامه من قبل روسيا على لسان العديد من المسؤولين في هذه المواجهة الدائرة بينها و بين الناتو في أوكرانيا. كان آخرها ما تحدث به الرئيس بوتين في نادي فالداي الحواري بتاريخ 5 أكتوبر الجاري. قال بوتين، في جوابه على سؤال يتعلق بهذا الموضوع، مايلي:
(أريد التذكير، في العقيدة العسكرية الروسية يوجد سببان لاستخدام السلاح النووي.
الأول-استخدام السلاح النووي ضد روسيا، أي كردٍ على هذه الضربة. ولكن ماذا يعني ذلك عملياً؟ انطلقت الصواريخ، رصدها نظام الإنذار، وتبين أنه هجوم على الأراضي الروسية – كل ذلك يتم خلال ثوانٍ، حتى يفهم الجميع – و بعد تلقي هذه المعلومات و معرفة بأن هناك ضربة على روسيا، فإننا سنرد على العدوان.
أؤكد للجميع، بأن الرد لن يتحمله أي معتدٍ، لأنه من لحظة رصد حركة الصواريخ، بغض النظر عن نقطة الانطلاق، فإن الرد في الجو سيكون بمئات الصواريخ، وفي جميع الاتجاهات، وهذا لن يترك أملاً في الحياة لأي عدو.
السبب الثاني لاستخدام هذا السلاح-هو التهديد الوجودي لروسيا، هذا يعني استخدام الأسلحة التقليدية بشكل يهدد وجود روسيا كدولة.)
و أضاف بوتين:
(لا يوجد الآن ما يهدد وجود روسيا كدولة. أعتقد، أنه لن يُقدم أي شخص، ذي عقل سليم و ذاكرة جيدة، على استخدام السلاح النووي ضد روسيا.)
وضوحاً، إذا اضطرت روسيا لاستخدام السلاح النووي فإن قصفها سيكون (عنيفاً و غير محدود)، بحيث لن يترك للعدو بعدها فرصة للحياة أو الرد بالمثل. فالسلاح النووي هو سلاح دمار شامل، و العبث به ليس في مصلحة أحد، كما أن معادلة (ضربة مقابل ضربة) لا تصلح معه.
ولكن يبقى السؤال: ما الذي تعتبره روسيا (تهديداً وجودياً) لها؟
ما هو الضغط الذي يجب أن تتعرض له روسيا حتى تشعر أن هناك ضرورة لاستخدام السلاح النووي؟
هل من الممكن أن نبلغ نقطة اللاعودة هذه؟
هل يستطيع الغرب القيام بخطوة ما تهدد وجود روسيا، غير استخدام السلاح النووي ضدها؟
ما هو الفرق بين (القضاء التدريجي على وجود روسيا) أو (القضاء عليها دفعة واحدة)؟
هل هناك إمكانية أو أمل لتحاشي هذا السيناريو الجهنمي؟
قد يساعدنا في الإجابة على هذه الأسئلة كلام الرئيس البيلاروسي ألكساندر لوكاشنكو، الذي قال بعد عدة ساعات من حديث بوتين:
(سيؤدي الضغط والتصعيد إلى إخراج الزر الأحمر و وضعه على الطاولة)
في الواقع، إن الضغط الغربي على روسيا مستمر، وفي كثير من الأحيان تقوم أوكرانيا بهجمات نوعية مؤلمة في العمق الروسي، ولكن كل هذا لا يعتبر مبرراً لاستخدام السلاح النووي من قبل روسيا. لأن استخدامه يتطلب أولاً تحديد ضد من يجب استخدامه!
لا يوجد في الداخل الأوكراني أهداف عسكرية تستحق الضرب بأسلحة نووية سوى المدن، إلا أن استخدامه في المدن هو جريمة أخلاقية، ولن تُقدم روسيا على ذلك. أما على خطوط الجبهة، فلا يمكن استخدامه لأسباب واضحة، و الجيش الأوكراني يعاني الكثير هناك بدون استخدام سلاح نووي أصلاً.
بناءً على ما تقدم، فإن احتمال استخدام روسيا للسلاح النووي سيكون بالتأكيد ضد الدول الغربية فقط، و السيناريوهات المحتملة لذلك هي:
-تدحرج الصراع داخل أوكرانيا و دخول بعض اللاعبين الغربيين في الحرب؛ إذ أنه سيُنظر إليه على أنه تهديد وجودي لروسيا، لأن عدد سكان روسيا قليل، ولا يمكنها بحرب استنزاف طويلة أن تصمد أمام الناتو، الذي يفوق مجموع سكان دوله أكثر من 7 أضعاف سكان روسيا.
-تزويد أوكرانيا بأسلحة غربية نوعية، و استخدامها ضد المدنيين الروس بحيث يخلف عدداً كبيراً من الضحايا.
-توطين الصناعات العسكرية الغربية في أوكرانيا. في هذه النقطة تحديداً قد تكون روسيا قادرة على تدمير هذه المصانع في طور الإنشاء، ولكن قد يُقدِم الغرب على تقديم أسلحة ما لأوكرانيا بدعوى أنه تمت صناعتها في أوكرانيا وليس في دول الناتو.
-إقدام الغرب على فتح جبهة ما ضد روسيا، في الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى أو القفقاز، فروسيا ستجد صعوبة في مواجهة الناتو في جبهتين، و هذا في الواقع يشكل تهديداً وجودياً لروسيا.
من نافلة القول، الصراع في أوكرانيا هو حصيلة تراكمات طويلة في الخلافات بين روسيا و الدول الغربية؛ فهذا الصراع لم يحدث فجأةً، بل هناك الكثير من الأحداث التي سبقته. يشهد على ذلك ما صرّح به الأدميرال روب باوير مؤخراً، وهو رئيس اللجنة العسكرية للناتو، في منتدى وارسو للأمن، الذي انعقد بين 3-4 أكتوبر الجاري. أكّد باوير أن التخطيط لمواجهة روسيا بدأ في عام 2008، ولقد بلغ حجم هذه المخطط حوالي 4500 صفحة على الورق فقط.
علاوة على ذلك، تؤكد بعض الصور الفضائية التي حصلت عليها السي إن إن من المدعو جيفري ليوس، و هو برفسور و مدير برنامج في مركز جيمس مارتن لأبحاث عدم انتشار الأسلحة، التابع لمركز ميدلبوري للأبحاث الدولية في الولايات المتحدة، أن هناك تغييرات كبيرة في البنى التحيتة النووية في روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية و الصين (انظر الأشكال).




ففي السنوات الـ 3-5 الأخيرة، لوحظ نشاط كبير في أماكن إجراء التجارب النووية في هذه الدول الثلاث. في روسيا، في أرخبيل نوفايا زيملا (أو الأرض الجديدة)، و هي جزيرة تقع شمال الدائرة القطبية الشمالية. في الصين، في منطقة سنجان (أو شينجيانغ، أو تركستان الشرقية)، الواقعة شمال غرب الصين. في الولايات المتحدة، في صحراء نيفادا.
تؤكد دراسة هذه الصور أنه تم بناء أنفاق و طرق جديدة و تشييد مبانٍ جديدة في هذه المواقع الثلاثة. و هذا يعني أن هناك تحضير لإجراء اختبارات نووية، و أن هذه الدول تقوم بتحديث مخزونها من السلاح النووي. و إلى هذه النتيجة توصل سيدريك ليتون، و هو محلل استخباراتي سابق و عقيد متقاعد في القوات الجوية الأمريكية.
في الواقع، منذ عام 1996 تم طرح معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. وقعتها حوالي 180 دولة، ولكي تدخل حيز التنفيذ لا بد أن توقعها و تصدقها 44 دولة. الآن تم توقيعها من قبل 41 دولة فقط، من بينها 36 دولة صادقت عليها. روسيا وقعت و صادقت على هذه المعاهدة، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية و الصين وقعتا عليها و لم تصادقا، لذل تعتبر هذه المعاهدة بحكم الميتة تقريباً!
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد السوفيتي قام بآخر تجربة نووية في عام 1990، أما الولايات المتحدة فأجرت آخر تجربة في عام 1992.
أشار الرئيس بوتين، في حديثه في منتدى فالداي إلى أن روسيا وقعت و صادقت على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، في حين أن الولايات المتحدة لم تفعل ذلك، وبالتالي من حق روسيا سحب تصديقها على هذه المعاهدة.
بدوره أكّد السيد فيتشسلاف فالودين، رئيس مجلس الدوما الروسي، أنه في الجلسات المقبلة ستتم مناقشة إلغاء التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، و بيّن أن هذا استجابة للمصالح القومية الروسية و هو رد متناظر على الولايات المتحدة.
في الواقع، زار وزير الدفاع الروسي أرخبيل (نوفايا زيملا) في آب الماضي، و الرئيس بوتين في فبراير الماضي أعلن انسحاب روسيا من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، و وجّه في ذلك الخطاب الشهير إلى وزارة الدفاع و مؤسسة (روس آتوم) ضرورة التحضير للقيام بتجارب نووية في المستقبل.
ختاماً، قد لا تقود التجارب النووية، إن أجريت، إلى حرب نووية، و لكنها بالتأكيد ستدفع العالم إلى سباق تسلح محموم، و إلى مزيد من الاستقطاب بين دوله، خاصة في ظل انعدام الثقة بين الدول العظمى خصوصاً و دول العالم عموماً.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً