بفلم الأستاذ ثروت زيد الكيلاني*
بعد مرور ما يقارب ستة عقود على حرب الأيام الستة (نكسة حزيران)، ما زلنا نرتحل في عالم رمادي مراوغ بين النور والظلمة بلا ظلال، وليل طويل لم تُفق شمسه بعد، ولم يتربع قمره في كبد السماء، قصة صراع الوجود بما فيها من همجية ووحشية لم تنل منها الأزمان والسنون، تحكي سردية أحاسيس ومشاعر عميقة بين الإنسان ومصيره، في ظل علاقة تتبادل فيها معاني المتناقضات؛ الحب والكره، والحق، والباطل، والمتاح، والممكن، والشقاء، والحرمان. ورغم كل ذلك، فلن يستطيع أحد أن يسلب منّا إرادة الحياة.
بعد 57 عامًا على النكسة، ما زال الوضع مأساوياً ومعقداً، فقد أصبحت المستعمرات الاستيطانية تشكل 42% من مساحة الضفة الغربية بعد أن كانت خالية كليّاً منها قبل حزيران 1967، إضافة إلى اتساع مساحة المستوطنات خاصة في الريف الفلسطيني الغني بالموارد الطبيعية والغابات، وموارد المياه، والأراضي الزراعية، وغيرها، كما زادت السلطة القائمة بالاحتلال من وتيرة انتهاكاتها المستمرة واغتصابها للوطن الفلسطيني والأرض العربية، وتنفيذ سياسات التطهير العرقي والتهجير القسري، وفرض القيود على حرية الحركة والتنقل وإغلاق المناطق وعزلها عن بعضها، إضافة إلى افتعال أزمات اقتصادية واجتماعية، وتعميق الانقسام السياسي الفلسطيني؛ ما يفاقم تأثيره السلبي على القضية الوطنية، ويهدد بإلغاء قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967، ويجعل سيناريو حل الدولتين سراباً.
وما يدعو للأسف أن الاستعداد والتخطيط الاستراتيجي لحماية السيادة العربية، مقابل الأطماع التوسعية والتفوق النوعي للاحتلال في مجالات الاستخبارات والتخطيط العسكري، والتطور التكنولوجي وغيرها ما زال يعاني من تواضع في الأداء والتنسيق على مستوى القيادة العربية في التوظيف الفعال للموارد البشرية والمادية، كما أن تأجيج الانقسام والصراعات السياسية والأيديولوجية داخل العالم العربي زاد من حالة التفكك العربي والشرذمة؛ ما انعكس سَلْباً على دوره كحاضنة أساسية للمشهد الشمولي للقضية الفلسطينية وأبعادها القومية والوطنية، في الوقت الذي تتسارع في الأحداث بوتيرة فاقت كل التصورات.
إن تتويج أمريكا زعامة العالم وظهور القطب الواحد بعد نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وعدم قدرة روسيا أن تقرر هويتها كدولة أوراسية أو أوروبية، وافتقار أوروبا إلى الوحدة السياسية والإرادة لتكون قوة عالمية، وظهور الصين باعتبارها قوة اقتصادية مسيطرة، وغير ذلك من التحولات الاقتصادية والتحالفات العالمية؛ ما يجعل توجّه العالم إلى نظام جديد ثنائي الأقطاب أو متعدد الأقطاب مثار جدل، إلا أن فشل السياسة الأمريكية تّجاه حل حاسم للقضية الفلسطينية من خلال صيغة تسوية مقبولة على الفلسطينيين وغير منحازة للاحتلال، واندفاعها إلى مغامرات عسكرية في الشرق الأوسط أتت بعكس النتائج المرجوة؛ ما ساهم بتشكيل اتجاهات جيوسياسية رئيسة معادية بشكل متزايد لأمريكا سياسياً، ومناهضة للغرب والإمبريالية تاريخياً، والذي من شأنه إحداث تحولٍ فارقٍ في مراكز الثقل والنفوذ.
إن بروز أمريكا كأقوى دولة في العالم يحملها مسؤولية نشوء نظام عالمي أكثر توازناً، وتعزيز حفظ السلام في المناطق التي انهكتها الحروب، والتفاعل مع الواقع العالمي الجديد (الضمير العالمي) كالرد على التهديدات الإيكولوجية والبيئية لخير البشرية، إلاّ أن خطايا الإهمال والأعمال، تتمثل بدعمها اللامحدود للاحتلال سياسيًا وعسكريًا ومالياً، تجعلها شريكًا للاحتلال في عدوانه على الفلسطينيين، وخاصة في “مقتلة” عدوان الإبادة في غزة، الأمر الذي أفقد أمريكا دورها كوسيط في التسوية، بل أشعل جذوة العداء العربي لها باعتبارها امبريالية متعجرفة في عصر ما بعد الامبريالية، وما كان لذلك من تأثير كبير في زعزعة الاستقرار الذي اشتد بعد الحرب على العراق، ومن المتوقع أن يزداد ضراوة بعد المجازر المرتكبة في الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة خاصة، نظراً لعمق قدسية فلسطين في الوعي العربي والإسلامي.
في ظل التحولات في المجالات كافة، لم تعد النخب القيادية المعززة بقدرات عسكرية والمدعومة بقوة اقتصادية قادرة على فرض سيطرتها، حيث إن القدرة التدميرية والتي أصبحت متاحة بأيدي دول أو حركات سياسية تفوق القدرة على السيطرة، في عالم أصبح مدركاً للظلم الاجتماعي والحرمان، والتوق إلى الكرامة الشخصية، ما يتطلب من القيادة السياسة الشرعية التحول للحاكمية الذكية والتعاونية، والتحلي بالجاذبية الثقافية والوعي الاجتماعي، وإدراك تبعات ظاهرة اليقظة السياسية العالمية في نطاقها الجغرافي وتأثيراتها الاجتماعية، وإخضاع المصالح بعيدة المدى إلى المصالح القريبة المدى، وصياغة التزامات استراتيجية في المجالات كافة، لتعزيز الأمن وتحقيق الرفاهية والحفاظ عليها.
لقد انتهت مرحلة صمت الليل وسكونه، فنحن أمة تتحلى بالقوة الكامنة الزاخرة التي تبعث الروح في الحياة، وتكمن قوتها بتحمل المسؤولية دون أن تفسح مجالاً لليأس والقنوط، ما زالت جلالة الزيتونة المقدسة تقيم هناك في الحديقة المسلوبة، وتجعل من ذكرى النكسة (57) حافزاً للمضي قدماً في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية وتعزيز قدرتها على المواجهة والصمود، ووفاء لكل مقدس وجليل لا مفر من بلورة رؤية استراتيجية فلسطينية شاملة لدحر الاحتلال وتحقيق الحرية وإنجاز الاستقلال، وتطوير الجهوزية البنيوية للنظام الفلسطيني، وصياغة سياسة وطنية تعمل على تجديد روح المقاومة والصمود الشعبي الفلسطيني باعتباره المفتاح لمواجهة انتهاكات الاحتلال، وتحقيق الوحدة الوطنية والتمسك بالثوابت الفلسطينية في مواجهة التحديات والضغوطات المستمرة، والتركيز على تفعيل دور المجتمع الدولي، وتوظيف القانون الدولي كأحد الوسائل النضالية في مقاومة الاحتلال وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ ثروت زيد الكيلاني – باحث و كاتب، مستشار للشؤون التعليمية والمناهج و وكيل سابق في وزارة التربية الفلسطينية
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً