بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
إنّه اليوم التاسع والأربعون للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، الذي يشهد أول هدنةٍ إنسانيةٍ ووقفٍ مؤقّتٍ لإطلاق النار؛ نجح الوسطاء في التوصّل إليها أخيراً بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، بعد جهودٍ مضنيةٍ، ومفاوضاتٍ شاقةٍ، وعثرات وصعوباتٍ وتحدياتٍ، وشروطٍ ومحاذيرَ ومحرّماتٍ، حالت دون التوصل إليها مبكراً.
وقد كان من الممكن الوصول إلى هذه الهدنة نفسها، بذات الشروط التي تحقّقت بها قبل أيامٍ، إلا أنّ العدو الإسرائيلي كان يماطل ويراوغ، ويتراجع وينقلب، وينكث وينكص، حتى اضطر أخيراً إلى التوقيع عليها والالتزام بها، بعد أن أدرك يقيناً أنه لن يستطيع إنجاز ما وعد به وتحقيق ما تطلع إليه، بالقوة العسكرية والقتل والتدمير المروّع، وأن جنوده وضباطه وبقية أسراه لن يعودوا إلى بيوتهم وأسرهم بالمجان ودون دفع الأثمان.
هذه الهدنة وإن كانت مدتها قصيرة، إلا أنها مفيدة للفلسطينيين وتنفعهم، فهي أولاً أجبرتِ العدو الإسرائيلي على التفاوض مع المقاومة والاعتراف بها ندّاً، واحترام شروطها والقبول بها طرفاً، وهو الذي أنكر وجودها، ورفض الاعتراف بها، ودعا إلى تدميرها وتفكيك قدراتها، والسيطرة على مقدراتها والقضاء على سلطاتها، فجاء التزامه بشروط الهدنة ومصادقته عليها، وخضوعه للمقاومة ويأسه عن مقارعتها، اعترافاً صريحاً بعجزه عن شطبها وتجاوز دورها وإنكار وجودها وتأثيرها.
رغم أنّ المقاومة كانت وما زالت قوية وقادرة، وتتحكم في قرارها، وتحدد أهدافها، وتنفّذ وعيدها، وتردّ على عدوها، ولديها كامل القدرة على التحكم في الميدان والسيطرة على أرض المعركة، وقد أعلنت مراراً أنها قادرة على الاستمرار والمواصلة، وأنها قد هيّأت نفسها لحربٍ طويلةٍ وقاسية، وأن لديها من المفاجآت الموجعة والأسلحة الرّادعة ما سيجبر العدو على مراجعة حساباته والتفكير في وقف عدوانه.
إلا أنها كانت في حاجةٍ إلى هذه الهدنة من أجل شعبها، الذي هو حاضنتها وعمقها، وقوتها وسندها، إذ أضنته فترة العدوان التي قاربت الخمسين يوماً، وأوجعه الحصار والحرمان، وآلمه القتل الواسع والتدمير الكبير، فكان في حاجةٍ إلى أيامٍ يرتاح فيها من هذا العناء، ويستجمّ خلالها ليتمكن من مواصلة المعركة التي لم تنتهِ بعدُ، ولتتمكن العائلات من تفقّد أبنائها والإطمئنان على بعضها، خاصةً أنه يوجد عددٌ كبيرٌ من المفقودين، ربما يزيد عن الثلاثة آلاف، ويلزم البحث عنهم واستخراجهم من تحت الأنقاض، فترة هدوءٍ وتهدئة، لا قتال فيها ولا غاراتٍ جويةٍ.
كما أن المقاومة كانت في حاجةٍ لأن تفرض على العدو رفع الحصار ولو جزئياً عن شعبها، وتجبره على السماح بإدخال قوافل الإغاثة والمؤن والمساعدات الغذائية والطبية، فضلاً عن شاحنات الغاز والوقود، وإدخالها المساعدات كافة إلى شمال القطاع وجنوبه على السواء، وهو الذي كان يراهن على تجويع الشعب وتعطيشه، وحرمانه من الدواء والعلاج بعد أن دمّر أغلب المستشفيات والمراكز الصحية والطبية، وقتل المئات من الأطباء والممرضين والعاملين في الإسعاف وهيئة الدفاع المدني، إلا أن الهدنة التي أجبر عليها، أحبطته وأفشلت مخططاته، وأخرست كل الأصوات الصهيونية الداعية إلى حصار شعبنا ومعاقبته.
أما أهم ما حققته الهدنة، فقد كان كسر القرار الإسرائيلي الرافض للإفراج عن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، ورفض المصادقة على أي صفقة من شأنها تحريرهم من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، خاصةً أولئك الذين يصنفهم بالقتلة، ويعتبر أنّ أياديهم ملطخة بدماء مستوطنيهم، وأن الإفراج عنهم يعرّض أمن كيانهم للخطر ويهدد حياة وسلامة مستوطنيهم، ويرى أن التجارب السابقة أثبتت أن الإفراج عن أسرى من المصنفين بأنهم خطيرون، يضر بالأمن القومي والاستراتيجي لكيانهم، مما دعاهم لوضع قوانين وضوابط ملزمة، تحول دون الموافقة على أي صفقةٍ من شأنها إطلاق سراح أسرى ومعتقلين، أياً كانت تهمتهم أو أحكامهم، فضلاً عن أعمارهم وحالتهم الصحية.
لكن هذه الهدنة المؤقتة، وإن كانت قصيرةً ومحدودةً، إلا أنها تؤسّس لما بعدها، وتسهّل غيرها، وتفتح الطريق واسعاً أمام صفقاتٍ جديدةٍ، أكبر وأشمل وأوسع، وتدفع العدو للتعجيل بها، والاعتراف بأنه لا يوجد أمامه أي وسيلة غيرها، ولا ينفع مع الفلسطينيين سواها، حتى وإن عاد إلى الحرب والقتال، والقصف والتدمير والعدوان، فإنه في النهاية سيخضع أمام صمود الشعب وثباته، للمقاومة وشروطها، وكما سنرى بعد ساعاتٍ محدودةٍ المجاهدة إسراء الجعابيص حرةً عزيزةً، فإننا سنرى في الأيام القليلة القادمة، عمالقة الصبر وقادة الأسرى جميعاً أعزةً أحراراً، يخرجون من السجون مرفوعي الرؤوس رغماً عن عدوهم، فلا قيد يأسرهم، ولا زنازين تحبسهم، ولا قوانين تمنعهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً