بقلم الدكتورة فاطمة الزهراء مسعودي*
الحرب الروسية الأوكرانية، الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، دخلت عامها الحادي عشر. ما بدأ كاحتجاجات محدودة تحوّل إلى صراع دولي مرير تجاوزت آثاره حدود البلدين المتنازعين ليطال النظام العالمي بأكمله. كيف تحوّلت أزمة محلية إلى حرب طويلة الأمد غيّرت وجه أوروبا الشرقية؟
جذور الصراع: ثورة الميدان والانقلاب الجيوسياسي
بدأت شرارة الأزمة في أوائل عام 2014، عندما أدّت احتجاجات الميدان (يوروميدان) إلى “ثورة الكرامة” وإطاحة الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيت. هذا التحول السياسي أحدث ردّة فعل سريعة من موسكو التي اعتبرت الأحداث تهديداً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
بعد وقت قصير من سقوط يانوكوفيتش، بدأت الاحتجاجات الموالية لروسيا في جنوب شرق أوكرانيا، بينما قامت قواتٌ روسية غير مُعلنة باحتلال شبه جزيرة القرم. في 27 فبراير 2014، بدأ جنود روس بدون شارات عسكرية في احتلال القرم، ونفت روسيا في البداية أنهم جنودُها، مُدّعية أنهم وحدات “دفاع ذاتي” محلية.
استولى الجنود الروس غير المعلنين على مباني البرلمان والحكومة في القرم، وأقاموا نقاط تفتيش لتقييد الحركة وفصل شبه الجزيرة عن بقية أوكرانيا. وبينما كان الرجال المسلحون يحتلون برلمان القرم، أقال البرلمان الحكومة وعيّن حكومةً موالية لروسيا برئاسة سيرجي أكسيونوف، رغم أنّ حزبه حصل على 4% فقط من الأصوات في الانتخابات السابقة.
في مارس 2014، ضمّت روسيا القرم بعد استفتاء مثير للجدل، حيث صوّت 97.47% من سكان القرم لدعم ضمِّ المنطقة إلى روسيا الاتحادية، وهو ما اعترفت به موسكو على الفور.
اشتعال دونباس: من الاحتجاجات إلى الحرب بالوكالة
في أبريل 2014، استولت وحدة كوماندوز بقيادة المواطن الروسي إيغور “ستريلكوف” غيركين على سلوفيانسك ومستوطناتٍ أخرى في منطقة دونباس أعلن الانفصاليون جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك (DPR و LPR) كدول مستقلة ودعمتهم روسيا سرّاً بالقوات والأسلحة.
اعترف قائد المتمردين الروس إيغور “ستريلكوف” غيركين لاحقاً بأن “المتمردين جمعوا المشرّعين لحشرهم في القاعة حتى يتمكنوا من التصويت. كنت أحد قادة هؤلاء المتمردين. رأيت ذلك من الداخل”.
في 15 أبريل، بدأت أوكرانيا “عملية مكافحة الإرهاب” (ATO). بحلول أغسطس 2014، استعادت أوكرانيا معظم أراضيها. ردّت روسيا بإرسال قوات وخبراء عسكريين ودبابات ومدفعية سراً إلى دونباس، مما ساعد القوات الموالية لروسيا على استعادة الكثير مما فقدته.
صرّح ألكسندر بورودانوي، زعيم جمهورية دونيتسك الشعبية، أن 50,000 مواطن روسي قاتلوا مع الانفصاليين بحلول منتصف عام 2015، باستثناء القوات الروسية النظامية التي غزت المنطقة.
بحلول هذه المرحلة، تحوّلت الاحتجاجات المحلية إلى حرب بالوكالة كاملة، حيث استفادت روسيا من الاضطرابات لإطلاق حملة سياسية وعسكرية منسّقة ضد أوكرانيا، معتمدة “نهجاً هجيناً” يجمع بين التضليل الإعلامي، والمقاتلين غير النظاميين، والقوات الروسية النظامية، والدعم العسكري التقليدي لزعزعة استقرار دونباس.
اتفاقيات مينسك واستمرار الصراع
وُقّعت اتفاقية مينسك لوقف إطلاق النار في سبتمبر 2014. وعلى الرغم من الهدنة، بدأت القوات المدعومة من روسيا هجوماً على مطار دونيتسك، واستولت عليه أخيراً في يناير 2015. تمّ الاتفاق على هدنة جديدة، مينسك الثانية، في 12 فبراير 2015.
على الفور بعد ذلك، جدّد الانفصاليون هجومهم على ديبالتسيفه وأجبروا الجيش الأوكراني على الانسحاب. قام الطرفان بتحصين مواقعهما من خلال بناء شبكات من الخنادق والملاجئ والأنفاق، مما أدّى إلى حرب خنادق ثابتة.
ظلت دونباس منطقة حرب، مع مقتل العشرات شهرياً. بحلول نهاية عام 2017، أحصى مراقبو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا حوالي 30,000 شخص في معدات عسكرية يعبرون من روسيا عند نقطتي الحدود اللتين سُمح لهم بمراقبتهما، ووثّقوا قوافل عسكرية تعبر من روسيا سراً.
وافقت جميع الأطراف على خارطة طريق لإنهاء الحرب في أكتوبر 2019، لكنها ظلت دون حل. خلال عام 2021، كثّف وكلاء روسيا من هجماتهم بينما حشدت القوات الروسية قرب حدود أوكرانيا.
التصعيد إلى حرب شاملة
تفاقم الوضع بشكل كبير في دونباس اعتباراً من 17 فبراير 2022. كانت هناك زيادة حادة في القصف المدفعي من قبل المسلحين الذين تقودهم روسيا في دونباس، فيما اعتبرته أوكرانيا وداعموها محاولة لاستفزاز الجيش الأوكراني للرد، لمنح روسيا ذريعةً للغزو.
في 21 فبراير 2022، اعترفت روسيا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبية كدول مستقلة ونشرت قوات “حفظ سلام” هناك. في 22 فبراير، فوّض مجلس الاتحاد الروسي بالإجماع بوتين باستخدام القوة العسكرية خارج روسيا.
في 24 فبراير 2022، بدأت روسيا غزواً واسع النطاق على أوكرانيا، مما أدى إلى ابتلاع حرب دونباس فيه ظهر أنّ للغزو هدفين: الاستيلاء سريعاً على كييف، واحتلال النصف الشرقي إلى ثلثي أوكرانيا.
الوضع الحالي: حرب استنزاف طويلة الأمد
بعد ثلاث سنوات من الحرب واسعة النطاق، تحوّلت إلى حرب استنزاف بحلول أوائل عام 2024 . يواجه الجيش الأوكراني، الذي يضم حوالي 900,000 جندي مقارنة بـ 1.3 مليون لروسيا، مشاكل في القوى البشرية، على الرغم من محاولته إيجاد طرق جديدة لجذب المجندين.
في بداية عام 2025، سيطرت القوات الروسية على حوالي 18% من أراضي أوكرانيا. أضافت روسيا 1,500 ميل مربع على مدار عام 2024، لكن ذلك يمثّل أقل من 1% من أوكرانيا.
وفقاً لتقييم حديث، دفعت روسيا ثمناً باهظاً خلال السنوات الثلاث الماضية، بتقدير 172,000 قتيل و611,000 جريح، العديد منهم بشكل خطير كما عانت روسيا من خسائر هائلة في المعدات، بما في ذلك حوالي 14,000 دبابة قتال رئيسية ومركبة مدرعة.
آخر التطورات: الربع الأول من عام 2025
استمرّ الغزو الروسي لأوكرانيا في فقدان الزخم في مارس 2025، حيث انخفضت مكاسب الكرملين الإقليمية للشهر الرابع على التوالي. وفقاً لبيانات جديدة من معهد دراسة الحرب، استولت القوات الروسية على 240 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الأوكرانية خلال مارس، وهو أقل إجمالي شهري منذ بدء موجة العمليات الهجومية الحالية في صيف 2024.
في الوقت نفسه، يبدو أن أوكرانيا تكثف هجماتها عبر الحدود ومحاولاتها التوغّل في الأراضي الروسية، حيث كثفت القوات الأوكرانية في الأسابيع الأخيرة الهجمات في مناطق بيلغورود وبريانسك الحدودية الروسية.
تستمر أيضاً المفاوضات حول تفاصيل اتفاقية وقف إطلاق النار بشأن ضربات البنية التحتية للطاقة، مما يشير إلى أن روسيا قد تستغل شروط وقف إطلاق النار الغامضة أو غير النهائية لضرب البنية التحتية للطاقة الأوكرانية بمدفعية قصيرة المدى.
البعد الاقتصادي والموارد الطبيعية
لا يمكن فهم الصراع بمعزل عن الأبعاد الاقتصادية والموارد الطبيعية. تضم دونباس والقرم، وهما نقطتا التركيز للاحتلال الروسي منذ عام 2014، رواسب فحم كبيرة وحقول غاز طبيعي ومعادن حيوية.
يتضمن السيناريو الأكثر احتمالاً للصراع تقسيماً فعلياً، مما يعزز سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونباس. من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي، سيؤدي هذا السيناريو إلى تفاقم اعتماد الطاقة والمعادن على موسكو، مما يقوّض تنويع مصادر الطاقة على المدى الطويل والتحول الأخضر.
مستقبل الصراع: مفاوضات صعبة في الأفق
يستمر المسؤولون الروس الكبار في تكرار الطلب الروسي بالقضاء على “الأسباب الجذرية” للحرب في أوكرانيا كشرط مسبق لاتفاق سلام — وهي إشارة إلى مطالب الحرب الروسية الأولية التي تتعارض مباشرة مع هدف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحقيق سلام دائم في أوكرانيا.
حدد المسؤولون الروس الكبار هذه الأسباب الجذرية على أنها انتهاك حلف الناتو المزعوم للالتزامات بعدم التوسع شرقاً وانتهاكات أوكرانيا المزعومة لحقوق الأقليات الناطقة بالروسية في أوكرانيا.
قد تستغل القوات الروسية أيضاً رأس جسرهم شمال شرق ليمان للاستيلاء على النسبة المتبقية البالغة 1% من منطقة لوغانسك تحت السيطرة الأوكرانية وإكمال هدف روسيا طويل الأمد المتمثل في الاستيلاء على منطقة لوغانسك بأكملها.
وقد أشار خبراء عسكريون أوكرانيون إلى أن الهجمات الأوكرانية المكثفة على الحدود الروسية تهدف على الأرجح إلى “تحويل انتباه” القوات الروسية عن الجبهات الأخرى.
بعد أحد عشر عاماً من بدء الصراع، تبدو الحرب الروسية الأوكرانية بعيدة عن النهاية، مع استمرار كلا الجانبين في محاولة تحقيق مكاسب ميدانية لتعزيز موقفهما التفاوضي في أي تسوية مستقبلية محتملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتورة فاطمة الزهراء مسعودي – أستاذة محاضرة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة تلمسان (الجزائر).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً