بقلم الدكتور آصف ملحم*
لا يمكن بشكل من الأشكال فهم هذا الهجوم الإرهابي الكبير على أنّه عملية انتقاميّة من روسيا بسبب عملياتها العسكرية في أوكرانيا؛ إذ أنه من الواضح أنّ العالم كلّه سيتضامن مع روسيا ويدين من قام بذلك، ولا أعتقد أن القيادة الأوكرانية بهذا الغباء إلى تلك الدرجة التي لا تُمكّنها من فهم هذه النقطة.
فضلاً عن ذلك، لا يجدر بنا التوقّف كثيراً عند هويّة من قام بهذا الهجوم الدموي؛ لأنهم أدوات رخيصة تمّ التغرير بهم بالأموال، واعتقدوا أنّهم قادرون على الخروج سالمين بعد الهجوم. لذلك يجب التركيز على الجهة الاستخباراتية التي خطّطت وموّلت وأقنعت هؤلاء للقيام بالهجوم.
بناءً على ذلك، فإن الوصف الدقيق لهذا الهجوم هو (رسالة سياسية دموية)، لذلك فهو بمثابة حلقة في سلسلة طويلة من الخطوات اللاحقة المشابهة أو غير المشابهة، و التي تهدف إلى الوصول إلى أهداف بعيدة المدى، يمكن وصفها بـ (الاستراتيجية)؛ فقد تكون مرتبطة بمجمل المحيط الحيوي لروسيا.
أوّل ما يثير الانتباه في هذه الحادثة هو محاولة هروب المسلحين باتجاه أوكرانيا، لذلك يبرز السؤال:
-لماذا إذاً اختيار مجمّع ترفيهي-تجاري في شمال موسكو وليس جنوبها؟ فالهروب انطلاقاً من جنوب موسكو نحو أوكرانيا أسهل من الهروب انطلاقاً من الجهة الشمالية.
يأخذنا البحث للجواب على هذا السؤال إلى مالك هذا المجمع، وهي مجموعة كروكوس لصاحبها (آراز آغالاروف)، وهو رجل أعمال روسي من أصول أذربيجانية. عند آراز ابنٌ اسمه (إمين)، وهو مغنّي بوب. في عام 2020 شغل (آراز) المرتبة الـ 55 بين رجال الأعمال الروس وفق تصنيف فوربس.
التقى (آراز) وابنه مع الرئيس السابق (ترامب) في لاس فيغاس في ولاية نيفادا في يونيو عام 2013. و وفقاً للفيديو الذي نشرته وكالة سي إن إن في يوليو عام 2017، أي بعد تولّي (ترامب) السلطة بحوالي ستة أشهر، أعلن (ترامب) أمام (آراز) وابنه أنه يرغب بإقامة مسابقات ملكة جمال العالم في موسكو في نفس ذلك العام، أي 2013. وفي ذلك العام أيضاً اشترك (ترامب) في تصوير بعض مقاطع فيديو كليب لـ (إمين).
لذلك فإن خصوم (ترامب) السياسيين يعتبرون أن هذه القرائن هي دليل على وجود علاقات بينه وبين السلطات الروسية عبر هؤلاء الأشخاص، وأنّ للسلطات الروسية تأثيراً ما عليه.
بناءً على ذلك، نصل إلى الفرضيّة الأولى:
الفرضية الأولى: الجهة التي تقف وراء التفجير هي جهة لا ترغب بأن يصل ترامب إلى سدّة الرئاسة!
ما يدعم هذه الفرضية هو أن الصحف الأمريكية الرئيسية تناولت العلاقة بين (ترامب) و (آراز) عند حديثها عن الهجوم الإرهابي على كروكوس سيتي سنتر.
فضلاً عن ذلك، فإن الرئيس الفرنسي (ماكرون)، في مقابلة مع قناة فرانس 2، بُثّت في 14 مارس/آذار، قال إنه بناءً على المعلومات المتوفرة لديه، فهو غير واثق من فوز ترامب. وهذا ما يطرح السؤال:
-ما هو مصدر معلومات الرئيس الفرنسي؟
وهذا في الواقع يثير الشكوك حول فرنسا نفسها، وإمكانيّة تورطها في هذا الحادث؛ فالرئيس الفرنسي بدأ يرفع الصوت في الأسابيع الأخيرة ضدّ روسيا، وقد أعلن عن رغبته إرسال قوات إلى أوكرانيا لمنع روسيا من تحقيق أي انتصار هناك!
وهذا ما يقودنا إلى الفرضية الثانية:
الفرضية الثانية: الجهة التي تقف وراء التفجير تريد استمرار الصراع وتوسيعه بهدف إيجاد موطئ قدم لها في أوكرانيا.
في الواقع، تسلّمت مجموعة كروكوس بعض المشاريع العمرانية على الحدود القيرقيزية مع الصين وطاجكستان وأوزبكستان في عام 2018. يدخل ضمن هذه المشاريع إنشاء عدد كبير من نقاط التفتش المزودة بأجهزة خاصة و مخابر لفحص المنتجات الزراعية و الحيوانية. كان من المقرر أن يتمّ الانتهاء من هذه المشاريع في منتصف عام 2019.
في عام 2019 كان المدعو (تشارلز غاريت) سفير بريطانيا في قيرقيزستان. كان على علاقة جيدة برئيس جهاز الاستخبارات البريطانية السابق (أليكس يانغر)، الذي تولى منصب رئيس جهاز MI-6 بين عامي 2014-2020. بدأت العلاقة بينهما منذ عام 2012 عندما كان (يانغر) نائباً لرئيس جهاز الاستخبارات، حيث ساعد (غاريتُ) (يانغر) في تأمين أولمبياد لندن. نفسه (غاريت) بقي سفير بريطانيا في قرقيزستان من عام 2019 حتى عام 2022، في هذه الفترة كان دائماً يضغط باتجاه دفع قرقيزستان إلى الاقتراب من الغرب، و كان على علاقة (طيبة) مع ممثلي المجتمع القرقيزي المحلي، حيث تمكّن من خلق صورة إيجابية للرجل (الديمقراطي الغربي) الذي يتمنى الخير للناس في تلك البلاد.
(يانغر) نفسه روّج لما يُسمَى (ملف ستيل)، نسبة إلى الجاسوس البريطاني (كريستوفر ستيل)، الذي قام بكتابته. يدور هذا الملف حول العلاقة بين (ترامب) و روسيا، وفيه معلومات تؤكد أن (ترامب) التقى ببعض بائعات الهوى في فندق (ريتز كارلتون) في موسكو عام 2013.
أما سفير الولايات المتحدة في عام 2019 لدى قيرقيزستان فكان (دونالد لو)، وهو يعمل في السلك الدبلوماسي منذ عام 1990. شغل (لو) منصب ضابط سياسي في بيشاور في باكستان بين عامي 1992 و 1994. كما أنه كان موظف قنصلي في تبليسي في جورجيا بين عامي 1994 و 1996. عمل مساعداً خاصاً للسفير (فرانك ويزنر) من عام 1996 إلى عام 1997 ثم مسؤولاً سياسياً في السفارة في نيودلهي بين عامي 1997 و 2000، حيث غطّى كشمير والعلاقات الهندية الباكستانية. شغل منصب المساعد الخاص لسفير رابطة الدول المستقلة (الجمهوريات السوفيتية السابقة) من عام 2000 إلى عام 2001، ثم نائباً لمدير مكتب شؤون آسيا الوسطى وجنوب القوقاز من عام 2001 إلى عام 2003.
شغل (لو) أيضاً منصب نائب رئيس البعثة الدبلوماسية في قيرقيزستان بين عامي 2003 و 2006، وفي أذربيجان بين عامي 2007 و 2009. وشغل منصب القائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في أذربيجان بين عامي 2009 و 2010. تم تعيين (لو) أيضاً سفيراً لدى ألبانيا بين عامي 2015 و 2018، وبسبب عمله في ألبانيا تم اعتباره بأنه (جزء من الدولة العميقة التي تقف ضد ترامب).
في 23 أبريل 2021، رشح الرئيس (بايدن) (لو) ليكون مساعدَ وزير الخارجية لشؤون جنوب ووسط آسيا. تمّ تقييم ترشيح (لو) من قبل لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في 28 يوليو 2021، وقدمت اللجنة تقييماً إيجابياً حوله إلى مجلس الشيوخ في 4 أغسطس 2021. صوّت مجلس الشيوخ بالإجماع لصالح تعيينه في هذا المنصب في 13 سبتمبر 2021، وأدى اليمين الدستورية في 15 سبتمبر 2021.
هذه المعطيات تقودنا إلى الفرضية الثالثة:
الفرضية الثالثة: الجهة التي تقف وراء التفجير هم أعداء آراز، الذين تسبّبت مشاريعه لهم بالمشاكل في آسيا الوسطى.
مما يعزز هذه الفرضية أن قيرقيزستان تشكّل عقدة وصل في مشروع الصين العملاق الحزام والطريق، وهذا المشروع تدعمه روسيا وتعارضه بعض الدول الغربية.
خلف (يانغر) في رئاسة الاستخبارات البريطانية (ريتشارد مور). كان (مور) سفير بريطانيا لدى تركيا بين عامي 2014 و 2017. يؤيد (مور) تقوية الجناح الجنوبي للناتو عن طريق تقوية تركيا و أوكرانيا و جورجيا. كما أنه يتقن اللغة التركية و يدعم أردوغان بقوة. يقف ضدّ الأكراد وإقامة الدول الكردية. يقف مور ضدّ خط غاز شرق المتوسط الذي سيستجرّ الغاز من السواحل الشرقية للمتوسط إلى اليونان وقبرص وكريت، كما أن تركيا تعارض هذا المشروع أيضاً.
فضلاً عن ذلك، فإن (مور) و (غاريت) عملا معاً على زعزعة استقرار آسيا الوسطى و إعاقة الجهود الصينية لإقامة مشروعها العملاق (الحزام و الطريق)، الذي سيؤدي إلى خلق كتلة جيوسياسية كبيرة تواجه الغرب، سمّيناها سابقاً (الفضاء الأوراسي الكبير).
في الواقع تعتبر آسيا الوسطى عنصر اهتمام مشترك بين (مور) و (غاريت) و (أردوغان)؛ فتركيا تحاول توسيع نفوذها باتجاه هذه المنطقة منذ زمن بعيد، ولكنها لا تستطيع فعل ذلك دون أن تسمح لها روسيا والصين.
وهذا في الواقع يقودنا إلى الفرضية الرابعة:
الفرضيّة الرابعة: الجهة التي تقف وراء التفجير تحاول ابتزاز روسيا لتعديل سياساتها في آسيا الوسطى لصالح التوسع التركي-الغربي، وتحديداً التركي-البريطاني.
كتب (ريتشارد مور) بعد يوم واحد من قيام العملية العسكرية الخاصة في حسابه على تويتر: “مع الدمار والمأساة المتصاعدة بألم في أوكرانيا، علينا أن نتذكر القيم والحريات التي حصلنا عليها بشق الأنفس، والتي تميزنا عن بوتين، وهي ليست سوى حقوق الـ +LGBT”.
كما أن بعض مواقع التواصل الاجتماعي تنقل عنه أن اقتباسه المفضل هو:
(من الناحية الجيوسياسية، لم يعد أحد بحاجة إلى وجود روسيا، ولا حتى روسيا نفسها).
لذلك – بالنظر إلى الكفاءة المهنية العالية لـ (مور) – يجدر اعتبار هذا الاقتباس بأنه مشروع طويل الأجل تعمل عليه بريطانيا و تركيا و الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا يقودنا إلى الفرضية الخامسة:
الفرضية الخامسة: هذا التفجير هو الخطوة الأولى في مشروع تفكيك روسيا، وهذا ما تطمح إليه العديد من القوى في العالم.
بدون أدنى شك قد يقود البحث بين السطور إلى فرضيات أخرى أغفلتها، كما أن الحصول على معلومات جديدة سيساعدنا على تقديم فرضيات جديدة أو ترجيح فرضية ما من الفرضيات الخمس السابقة. سنترك هذه المهمة للقارئ الكريم، الذي سيُسعِدنا الاطلاع على رأيه في الموضوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً