بقلم الأستاذة نُسيبة شيتور*
لم تكن نهاية التحالف بين مجموعة فاغنر والمجلس الانقلابي في باماكو سوى فصل متوقع من رواية بدأت على وقع شعارات التحرر من “الاستعمار الجديد”، وانتهت في عزلة قاتمة، وانكشاف أمني لا تخطئه العين.
في تقرير نشره موقع Avions Légendaires يوم 3 جوان 2025، بعنوان:
«La Russie refuse au Mali la livraison de nouveaux aéronefs»
كشف التقرير أن وزارة الدفاع الروسية رفضت بصمت طلبات الجيش المالي للحصول على طائرات جديدة ومعدات قتالية إضافية، في خطوة فسّرها كثيرون بأنها رسالة عقابية هادئة موجهة إلى باماكو، ورسالة مضمونة الوصول.
ولم تمضِ أيام حتى أعلنت مجموعة فاغنر انسحابها من مالي. هذا الانسحاب، الذي كان يُتفاوض بشأنه خلف الكواليس منذ أشهر، خرج أخيرًا إلى العلن، كشهادة وفاة لعلاقة بُنيت على سوء فهم وتضارب مصالح، أكثر مما بُنيت على رؤية استراتيجية مشتركة.
العزلة الاختيارية التي انقلبت عزلة واقعية
منذ لحظة انقلابه، تبنّى المجلس العسكري خطابًا يقوم على “الاستقلال الكامل”، مُعلنًا القطيعة مع شركائه الإقليميين والدوليين التقليديين. لكن ما لم يدركه صُنّاع القرار في باماكو هو أن الاستقلال لا يعني العزلة، وأن السيادة لا تُمارس بالشعارات، بل بتقوية المؤسسات والانفتاح على منطق التعاون.
اختار المجلس الانقلابي أن يدير ظهره لكل الأطراف الإقليمية، واستعاض عن التحالفات الاستراتيجية بشراكات مأجورة، ظنًا منه أن الأمن يُشترى كما تُشترى العقود الخاصة. لكن الأرض فضحت الوهم.
من يبقى؟
مع توقف موسكو عن تزويد باماكو بالطائرات التدريبية Yak-130، وبعد فشل مفاوضات توريد طائرات L-39 وحوامات Mi-24، تجد باماكو نفسها وحيدة في قلب منطقة مهددة، من دون غطاء جوي، ولا دعم استخباراتي، ولا شريك استراتيجي. والأدهى أن طائراتها القديمة (Albatros L-39) لم تعد صالحة حتى للتدريب، بعد أن أعلنت شركة “آيرو فودوخوذي” التشيكية رفضها صيانتها.
المجلس الانقلابي.. الحسابات الخاطئة
أكبر خطأ ارتكبه المجلس الانقلابي لم يكن في الانقلاب ذاته، بل في الرهان على تحالفات غير متكافئة، وقطع الجسور مع الجوار، وانتهاج سياسة الاستفزاز بدل الحوار.
لقد تحوّل الخطاب السياسي في باماكو إلى أداة تعبئة ظرفية، دون النظر إلى ما تفرضه الجغرافيا والتاريخ من حقائق راسخة. فاستعداء الدول المجاورة، والاستخفاف بالمنظمات الإقليمية، ومحاولة بناء شرعية فوق ركام العلاقات الدولية… كلها رهانات خاسرة تنعكس اليوم في عزلة خانقة ومشهد أمني مترنّح.
أرض مفتوحة على كل الاحتمالات
باماكو اليوم أمام تحديات جمة في بناء تحالفات مستدامة، وفي استعادة ثقة محيطها الإقليمي الذي رفض أن يُحاصر أو يُستفز.
الاستقرار في منطقة الساحل لا يُبنى على رهانات قصيرة الأمد أو تحالفات قائمة على حسابات مؤقتة، بل يتطلب رؤية متجددة، توازن بين السيادة والانفتاح، وتوظيف العلاقات الدولية بما يخدم الأمن والتنمية.
والمجلس الانقلابي اليوم أمام خيارين:
إما المضي في عزلة قاتمة تنذر بالمزيد من الفوضى،
أو إعادة قراءة معطيات المنطقة بعين الحكمة، لبناء شبكة تعاون حقيقية لا تقوم على الارتزاق العسكري، بل على إرادة سياسية شجاعة، تضع أمن الشعوب قبل حسابات الكراسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة نسيبة شيتور – باحثة في الاتصال السياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً