بقلم الأستاذ خلف عبدالله محمد*
في عالمٍ يزداد تعقيداً وترابطاً، لا يقتصر التهديد على الأسلحة التقليدية كالصواريخ والدبابات، بل هناك نوع آخر من الأسلحة يُعتبر الأخطر على الإطلاق: السلاح البيولوجي؛ هذا النوع يعتمد على الكائنات الحية أو السموم المستخلصة منها لإحداث أضرار واسعة النطاق للبشر. ولكن ما هو هذا السلاح؟ وهل تمَّ استخدامهُ فعلياً؟ وهل سوف يستخدم في المستقبل؟
ما هو السلاح البيولوجي؟
السلاح البيولوجي: هو استخدام العوامل البيولوجية مثل الفيروسات، البكتيريا، الفطريات أو السموم الطبيعية كأداة لإلحاق الأذى. يمكن أن تُنشر هذه العوامل عبر الهواء، الماء، أو من خلال الحيوانات، مما يجعلها وسيلةً غير مرئيّة ولكنها مدمّرة للغاية، وهو برأي أكثر رجال الحرب الساعين إلى دمار البشرية سلاح المستقبل الذي لا يبقي ولا يذر، حيث ذهب المارشال الروسي (جوكوف) إلى القول: “إنّ الحرب المقبلة لن تربح بالأسلحة النووية والقوة الجوية لوحدها بل ستستعمل الأسلحة البيولوجية والكيماوية لدعم الأسلحة التقليدية والنووية” ومن أشهر الأمثلة على هذا النوع من الأسلحة تشمل استخدام الجمرة الخبيثة (Anthrax) والطاعون.
وأهم ما يتميّز به السلاح البيولوجي صعوبة الكشف على العكس من القنابل النووية والكيميائية، حيث يسهل إحاطته بالسرية التامة من خلال نشرهِ بشكل خفي عبر الهواء، فهو بلا لون ولا رائحة، وبالتالي لا يمكنُ اكتشافُهُ أو تحديد مصدرهِ فالكائنات الدقيقة المستخدمة غالباً ما تكون لا مرئيّة بالعين المجرّدة ولا يمكن رؤيتها حتى بالمجهر العادي إلا بالمجهر الإلكتروني مثل فيروس الحمى الراشحة، وقد تظهر أعراض العدوى بعد فترة طويلة، كما يتميز بسهولة وسرعة الانتشار في عالمنا المتصل عبر الطيران والسفر الدولي بحيث يمكن لعدوى صغيرة أن تتحول إلى جائحة عالمية في غضون أيام قليلة، إضافةً إلى ذلك يمكن استخدام مثل هذا النوع من الأسلحة سواء بواسطة الدول أو العملاء أو حتى الإرهابيين دون الوصول إلى الفاعل، لأن تأثيرها لا يظهر إلا بعد فترة حضانة معينة، يكون الفاعل قد اختفى تماماً أثناءها قبل أن یتمّ اكتشاف أمره، فضلاً عن ذلك فإنّ السلاح البيولوجي يتميز بتكلفة صنع زهيدة مقارنةً بالأسلحة الأخرى، فإذا كانت تكلفة السلاح التقليدي لتدمير مساحة كم2 هي 2000 دولار، والسلاح النووي 800 دولار، والسلاح الكيميائي 600 دولار، فإن تكلفة السلاح البيولوجي لتدمير هذهِ المساحة من الأرض هي دولار واحد!
الشواهد التاريخية على استخدام السلاح البيولوجي
يتصارع البشر على مرّ التاريخ من أجل البقاء والمال والسلطة والاستحواذ على الموارد أو أي سبب آخر، وقد تطوّرت الأساليب المستخدمة في الصراع من استخدام القوة العضلية إلى استخدام الحجارة والأخشاب والحديد ثم دخلت وسائل النقل المختلفة، ثم اكتشف الإنسان البارود والقنابل حتى دمج الأنوية واستطاع شقّ الذّرة ليحصل على القنبلة النووية المدمرة، وأخيراً الأسلحة البيولوجية لا تعرف للرحمة طريق.
ولعل من أقدم الأسلحة البيولوجية المستخدمة في التاريخ عندما قام القائد العسكري (هانيبال) بملء أوانٍ فخاريةٍ بأفاعٍ سامة ثم إفلاتها على الأعداء، وقد حدث هذا عام 148 قبل الميلاد تقريباً ، كما تشير كتب التاريخ إلى أن اليونانيين قد استخدموا مخلّفات بعض الحيوانات في تلويث مصادر مياه الشرب التي يشرب منها أعداؤهم، وتلا ذلك استخدام الفرس والروم للأسلوب نفسه في حربهم مع الأعداء في بعض الأحيان، أو مع بعضها البعض، كما قام المغول في الفترة المحصورة بين عامي 1346—1347 بإلقاء الجثث الملوثة بالطاعون من فوق أسوار مدينة كافا (في شبه جزيرة القرم)، مما أجبر سكان جنوة المحاصرين على الفرار، ويعتقد أن هذا الحدث كان سبباً لوباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا في العصور الوسطى وأودى بحياة 25 مليون شخص.
وفي العام 1763 لجأت بريطانيا في حربها مع الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة إلى استخدام البطانيات والمناديل الملوثة بمرض الجدري المعدي من خلال إسقاطها في معسكرات الهنود الحمر كمساعدات بهدف القضاء عليهم، وكذلك ما حدث أثناء الحرب العالمية الأولى عندما استخدمت الجيوش الألمانية الأسلحة البيولوجية على نطاق واسع تحديداً في العام 1915 لمهاجمة الخنادق الفرنسية قرب ايبيروس في بلجيكا وفق ما ذكرت منظمة الصحة العالمية، وكذلك ما قامت به اليابان إبّان حربها مع الصين في العام 1940 بنشر وباء الطاعون عن طريق إنزال أعداد كبيرة من الجرذان الموبوءة بالمظلات في مدن عديدة بالصين، وقد أدى ذلك إلى قتل العديد، كما استخدمت الأسلحة البيولوجية في الحرب الكورية، كذلك استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية هذا السلاح في العام 1970، فقد أنفقت ما يقرب 32 مليون دولار على أكثر من 50 ألف طن من المواد المبيدة للمحاصيل الزراعية بهدف تدمير المحاصيل الزراعية في الحقول التي كان يستخدمها الثوار الفيتناميون كتموين غذائي لهم، كما كانوا يختبئون فيها.
أبرز مخاطر السلاح البيولوجي في المستقبل
الحديث عن مستقبل السلاح البيولوجي يثير قلقاً متزايداً، بسبب التطورات التكنولوجية، التوترات الجيوسياسية، وعدم قدرة المجتمع الدولي على فرض ضوابط على تطوير واستخدام هذه الأسلحة في ظل الظروف الحالية، هناك احتمالية واقعية لاستخدام السلاح البيولوجي الفتاك في المستقبل للأسباب التالية:
1-التطور التكنولوجي: التطورات في مجال الهندسة الوراثية والبيولوجيا الاصطناعية قد تسهل تطوير أسلحة بيولوجية جديدة وأكثر فتكاً، تجعل رصدها أو مواجهتها أكثر صعوبة.
2-التوترات الجيوسياسية: إن استمرار التوترات الجيوسياسية بين الدول خاصة القوى العظمى هو الذي سوف يسمح باستمرار التفكير بإنتاج أسلحة فتاكة ولا سيما تلك التي تحقق الردع المطلوب ولا تتطلب خوض معارك شرسة وخسارة الكثير من الجنود والعتاد الحربي، وعلى رأس تلك الأسلحة هو السلاح البيولوجي.
3-عدم قدرة المجتمع الدولي على فرض تدابير تستهدف منع تطوير وإنتاج مثل هذهِ الأسلحة الفتاكة، سيما أن هناك بعض الدول لم توقّع أو تصادق على اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية (BWC) أهمها (إسرائيل) وكوريا الشمالية الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن إقدام هذهِ الدول على استخدام هذه الأسلحة أمر لا يمكن استبعاده، وخاصة في حالة يأسها وبمجرد شعور مؤسستها العسكرية بأن ميزان القوى لم يعد في صالحهما في أية حرب مقبلة، بل وحتى الدول الموقعة والتي تعد طرفاً في هذهِ الاتفاقية لم تلتزم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كشفت الولايات المتحدة في العام 2022 عن استراتيجية وطنية لمواجهة التهديدات البيولوجية، وهو ما أكّده رئيس قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي والبيولوجي الروسية، (إيغور كيريلوف) في 6/9/2023 أن واشنطن تسعى لتوسيع شبكة مختبراتها البيولوجية، كما تملك الصين برنامجاً متقدماً في مجال الأسلحة البيولوجية ولكن في سرية شديدة، وظهر الحديث عن هذا البرنامج إلى السطح عدة مرات آخرها مع الحديث عن أكاديمية علم الفيروسات في مدينة ووهان، والتي تّم اتهامها من قبل ضابط الاستخبارات الإسرائيلي (داني شوهام) بتسريب فيروس كورونا(كوفيد-19) عمداً، كذلك تمتلك روسيا موقع أبحاث عسكري يضمّ مختبراتٍ متخصّصةً لأبحاث ومعالجة مسببات الفيروسات شديدة الفتك والذي يسمى (سيرجيف بوساد-6)، والذي يحتوي على أسلحة بيولوجية، وفي العام 2022 أكد المسؤولون الروس، علنًا، أن العلماء سوف يستخدمون المختبرات لدراسة الميكروبات القاتلة، مثل الإيبولا، في محاولة لتعزيز دفاعات البلاد ضد الإرهاب البيولوجي، فضلًا عن أوبئة المستقبل.
4-إن جميع دول العالم سواء المتقدمة أو النامية بإمكانها الحصول على الأسلحة الجرثومية، وذلك لسهولة تصنيعها بتكاليف قليلة وبكميات كافية، ويمكن إنجاز ذلك بسرعة كبيرة وفي مختبرات بسيطة، لذلك فإن مراقبة حصر هذه الأسلحة يعتبر مسألة صعبة.
ختاماً؛
في ختام هذا المقال، يمكننا القول إن السلاح البيولوجي يمثّل تحدياً خطيراً للإنسانية في المستقبل، حيث تتجلى خطورته في قدرته على تدمير حياة الملايين بطرق صامتة وغير مرئية، ومع تسارع التقدم التكنولوجي، أصبحت الحاجة ملحة لتطوير استراتيجيات فعّالة لمكافحة هذا التهديد، من خلال تعزيز التعاون الدولي ووضع أنظمة رقابة صارمة لضمان استخدام التكنولوجيا الحيوية لأغراض سلميّة تخدم البشرية.
المصادر
1-محمد زكي عويس، أسلحة الدمار الشامل، دار العين للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 2003.
2-السيد مجاهد، دراسة في الحرب البيولوجية، دار الكتب والوثائق القومية المصرية، مصر، ط1، 2020.
3-المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، أمن دولي ـ الأسلحة البيولوجية في الحروب، حرب أوكرانيا أنموذج، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/BaosTuRr
4-فورين أفيرز: الأسلحة البيولوجية خطر خفي على العالم الانتباه له، الجزيرة نت، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/ytbylKO4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ خلف عبدالله محمد-مدرس مساعد في كلية القانون والعلوم السياسية-جامعة كركوك.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً