بقلم الدكتور آصف ملحم*
أعلن المتحدث باسم الحكومة الفيدرالية الألمانية( شتيفن هيبيسترايت) في التاسع عشر من ديسمبر الجاري، أنّ لجنة الميزانية في البرلمان الألماني (بونديستاغ) ستناقش مشروع الميزانية في منتصف يناير 2024، لذلك من المتوقع أن يُقرّ البرلمان الميزانية في نهاية يناير 2024، وبعد ذلك سيقوم المجلس الفيدرالي بالمصادقة عليها بشكل نهائي في فبراير 2024.
في الواقع، واجهت ألمانيا في الأسابيع السابقة (أزمة ميزاينة) واسعة النطاق؛ فلقد تبيّن أنه قد يكون هناك فجوة كبيرة في ميزانية عام 2024 تصل إلى 60 مليار يورو. أحد أهم أسباب هذه الفجوة هو قرار المحكمة الدستورية رقم 2 BvF 1/22 الصادر بتاريخ 15 نوفمبر 2023، الذي يمنع استخدام أموال (صندوق كوفيد) في مشاريع الطاقة الخضراء ودعم الصناعة. (صندوق كوفيد) هو صندوق الاستقرار الاقتصادي الذي تمّ إنشاؤه لإنقاذ الشركات المتعثرة بعد انتشار فيروس كورونا. في السنة الماضية تمّ إنفاق 30 مليار يورو من هذا الصندوق، أما الباقي فقد تمّ إنفاقه في هذه السنة. اعتبرت المحكمة الدستورية أن هذا مخالف للقانون؛ إذ أنّ الأموال المُقتَرضة يجب استخدامها في السنة نفسها التي تم إقرارها فيها. كانت السلطات الألمانية تنوي استخدام هذه الأموال في مشاريع الطاقة الخضراء في السنوات القادمة.
في الحقيقة توجد أسباب أخرى لتراجع الاقتصاد الألماني؛ إذ أنّ نمو الاقتصاد الألماني كان يعتمد على العلاقات التجارية الوثيقة مع الصين و روسيا، وكذلك على حوامل الطاقة الروسية الرخيصة. فلقد أضعفت الحرب في أوكرانيا والعقوبات ضد روسيا العلاقات التجارية والاستثمارية، وخاصة مع روسيا. لذلك من المتوقع أن يستمر كساد الاقتصاد الألماني عدّة سنوات، وهذا ما يفسر اعتماد سياسة التقشف في عدة مجالات اقتصادية.
واصل الاقتصاد الألماني التراجع في السنة الماضية؛ فلقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.5% في الربع الرابع من عام 2022، وتراجع بمقدار 0.3% في الربع الأول من عام 2023، ولقد واصل التراجع في الأرباع اللاحقة. فضلاً عن ذلك، تؤكد البيانات أن مؤشر الصناعة في ألمانيا انخفض بمقدار 3.4% بين فبراير و مارس هذا العام. لذلك كثر الحديث في الفترة السابقة عمّا يسمى (الكساد الفني) في الاقتصاد الألماني.
يعتبر الاقتصاد الألماني المحرّك الحقيقي للاقتصاد الأوروبي؛ ولقد أعطى صندوق النقد الدولي توقعات متفائلة حياله؛ إذا أشارت التقديرات بأنه سينمو بمقدار 1% في عام 2023، إلا أنّ الواقع يبيّن أنه انكمش بمقدار 0.2-0.3%، وفق بيانات المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية و المعهد الدولي للاقتصاد.
بالمقابل سجل التضخم في ألمانيا أرقاماً قياسية في عام 2022، فلقد بلغ حوالي 7.9%. أما في سبتمبر و أكتوبر و نوفمبر من هذا العام فلقد انخفض إلى: 4.5%، 3.8%، 3.2% على التوالي. بفضل انخفاض التضخم فإن الأجور ترتفع و بالتالي تزداد القوة الشرائية؛ ففي الربع الثالث من هذا العام ازدادت الأجور في ألمانيا بمقدار 6.3%. لذلك، يرجّح بعض الخبراء الاقتصاديين بأن يسجل الاقتصاد الألماني نمواً يصل إلى 0.5-1.5% في عام 2024.
كان من المتوقع أن يكتمل التحول إلى الطاقات الخضراء، أو ما نسميه الحياد المناخي، في ألمانيا بحلول عام 2030. ولكن بسبب تراجع استيراد الغاز الطبيعي الروسي، اضطر الألمان إلى تقليص فترة إنجاز مشاريع الطاقة البديلة إلى سنتين حتى ثلاث سنوات بدلاً من خمس حتى سبع سنوات . كما أنّ الألمان لم يتمكنوا من تكييف الصناعات غير النظيفة، كالصناعات الكيميائية و صناعات التعدين، مع التحول إلى الطاقة الخضراء بالسرعة المطلوبة، الأمر الذي أدّى إلى حدوث خلخلة في النظام القائم. حدث كل ذلك في فترة إضعاف العلاقات التجارية مع روسيا و الصين، مما انعكس على النمو الاقتصادي.
يشير بعض الخبراء إلى أنّ النمو المطّرد للاقتصاد الألماني في العقد الأخير كان (طفرة تاريخية)، سببها الرئيس انفتاح أسواق الصين و روسيا على المنتجات الألمانية و رخص الغاز الروسي. وفي الوقت الحالي، هنالك تراجع ملحوظ للاستثمار في القطاعات الصناعية الحديثة، كما أن هنالك تراجعاً ملحوظاً في الابتكار و التجديد، الأمر الذي سينعكس على الإنتاجية. لذلك سيواجه الاقتصاد الألماني العديد من المشاكل في السنوات المقبلة، و بالتالي من الصعب التكهّن بإمكانية نموّه أم لا!
توصّل الائتلاف الحكومي الألماني إلى اتفاق حول ميزانية عام 2024 بعد قرار المحكمة الدستورية. ففي مؤتمر صحفي مشترك، جمع المستشار الألماني (أولاف شولتز) مع وزير الاقتصاد (روبرت هابيك) و وزير المالية (كريستيان ليندنر)، يوم الأربعاء، في 13 ديسمبر الجاري في برلين، تمّ الإعلان أنه تمّت إعادة تصحيح بعض البنود في مشروع الميزانية لعام 2024 بناءً على اعتبارات جديدة. مع العلم أن الحكومة الألمانية ما زالت ملتزمةً بالأهداف الأساسية، المتمثّلة في: بناء الاقتصاد الأخضر، الرفاهية الاجتماعية، مساعدة أوكرانيا.
وهكذا، تم الاتفاق على تقليص ميزانية عام 2024 بمقدار 17 مليار يورو، أما الفجوة الباقية فسيتم إغلاقها بمجموعة كبيرة من الإجراءات، التي سنعرّج عليها تباعاً ببعض التفصيل:
1- تقليص النفقات المخصصة لحماية المناخ و التحول الاقتصادي نحو الحياد المناخي:
يُعتبر صندوق المناخ و التحول الأخضر، أو التحول نحو الاقتصاد الأخضر، الأداة الأساسية لبلوغ الأهداف الموضوعة في هذه المسار. كان من المقرر أن يكون حجم هذا الصندوق حوالي 160 مليار يورو. أعلن شولتز أنه سيتم تقليص حجم تمويل هذا الصندوق بمقدار 45 يورو بحلول عام 2027، وذلك عن طريق تقليص نفقات برامج التحول الأخضر. في عام 2024 سيتم تقليص نفقات هذه البرامج بمقدار 12.7 مليار دولار.
أهم الإجراءات المنضوية تحت هذا البند:
-إلغاء المنح المقدمة لشراء السيارات الكهربائية.
-إلغاء المنح المقدمة لتطوير أنظمة الطاقات المتجددة، وخاصة تلك الأنظمة التي أصبحت معروفة في الأسواق. مع المحافظة على الضرائب و الرسوم المرتبطة بتطوير أنظمة تزويد الأبنية بالطاقة، أو ما يعرف بضرائب EEG، أو قانون الطاقات المتجددة، اختصاراً للعبارة الألمانية Erneuerbare-Energien-Gesetz.
-زيادة الضرائب المتعلقة بانبعاث ثاني أوكسيد الكربون بحيث تكون قيمتها مساوية للقيمة المعتمدة من قبل الحكومة السابقة في عام 2020. وهذا يشمل السيارات و أنظمة التدفئة التي تستخدم الوقود الأحفوري.
2-تقليص بعض النفقات في بعض الوزارات وبعض المعونات في الميزانية الفيدرالية و التعديلات الضريبية
و يشمل الإجراءات التالية:
-تقليص نفقات التعاون الدولي بمقدار 800 مليون يورو.
-تقليص ميزانية وزارة النقل بمقدار 380 مليون يورو.
-تقليص ميزانية وزارة البحث العلمي بمقدار 200 مليون يورو.
-تقليص المنح الفيدرالية المقدمة لصندوق التقاعد بمقدار 600 مليون يورو.
-تستطيع الوكالة الفيدرالية للتوظيف تعويض نسبة من المنح والمعونات المقدمة من الميزانية الفيدرالية اعتماداً على الأموال التي تم الحصول عليها في فترة انتشار فيروس كورونا. يُقدر حجم هذه الأموال بحوالي 1.5 مليار يورو.
-من المتوقع أن يساهم إلغاء التخفيضات الضريبية على وسائل النقل المستخدمة في الزراعة و استثمار الغابات بحوالي 480 مليون يورو.
-من المتوقع أن يساهم إلغاء التخفيضات الضريبية على وقود الديزل المستخدم في الأعمال الزراعية بحوالي 440 مليون يورو.
-من المتوقع أن يساهم إلغاء آلية تخفيض الضريبة على وقود الطيران بحوالي 70 مليون يورو في عام 2024، وقد تصل هذه المساهمة إلى 300 مليون يورو في عام 2025.
-يتم سنوياً تصحيح ضرائب الطيران بحيث يؤدي إلى توفير مبلغ مساوٍ لقيمة التخفيض الضريبي على كيروسين الطائرات الوطنية، وسيساهم هذا الإجراء بمبلغ 580 مليون يورو ابتداءً من عام 2024.
-ضريبة البلاستيك المفروضة على الأواني البلاستيكية، التي يتم استخدامها لمرة واحدة، وهذه الضريبة معمول بها في الاتحاد الأوروبي. حيث سيتم فرض هذه الضريبة على مصنعي الأواني البلاستيكية، في حين كان سابقاً يتم جنايتها من دافع الضرائب. من المتوقع أن يساهم هذا التعديل بوفرة في الميزانية مقدارها 1.4 مليار يورو.
-سيساهم ما أُطلِق عليه (التوظيف السريع) و دمج اللاجئين في سوق العمل بتوفير حوالي 500 مليون يورو. كما أنه سيتم إلغاء المكافآت وفرض عقوبات أيضاً على أولئك الذين يمتنعون عن قبول العمل المعروض عليهم، الأمر الذي سيؤدي إلى توفير مبلغ 250 مليون يورو في عام 2024. فلقد تمكن 19% من اللاجئين الأوكرانيين من الحصول على عمل في السنة الماضية، و من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 40% في سنة 2024.
-من المتوقع أن يساهم تصحيح بعض نفقات الحكومة الفيدرالية اعتماداً على تغيرات معدلات الفائدة و التضخم إلى وفرة مقدارها 2.3 مليار يورو.
-يوجد بعض الصناديق الخاصة، التي لا يشملها قرار المحكمة الدستورية آنف الذكر، و قد تصل نسبة مساهمة هذه الصناديق إلى 3.2 مليار يورو.
3-التمويل الاستثماري لشركة السكك الحديدية دويتشه بان (بالألمانية: Deutsche Bahn).
من المتوقع أن يزداد رأس المال الاستثماري بمقدار 1.5 مليار يورو في عام 2024. وفي عامي 2024 و 2025 قد يصل مجموع ما سيتم ضخه من أموال في هذه الشركة إلى حوالي 5.5 مليار يورو، وفي السنوات القادمة قد يزداد مجموع أموال المساهمين في شركة دويتشه بان بمقدار 20 مليار يورو.
في الواقع، يتبع لشركة دويتشه بان أكثر من 500 شركة صغرى، لذلك فإن أحجام أموال المساهمين و توزيعها و الفترات الزمنية اللازمة لذلك سيتم تحديدها لاحقاً.
4-استخدام أموال الصندوق المخصص لمعالجة آثار الفيضانات التي حدثت في صيف عام 2021 في ولايتي راينلند بالاتينات و شمال الراين وستفاليا. يصل حجم هذا الصندوق إلى 2.5 مليار يورو، ولكن الاستفادة من هذه الأموال تتطلب بعض الإجراءات القانونية و الإدارية لكي تسمح المحكمة الدستورية بذلك.
5-رفع الحد الأعلى للدين الحكومي:وضعت الحكومة الألمانية السابقة عتبة محددة للدين تساوي 0.35% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، ولا يجوز تجاوز هذا الحد، وهذه القاعدة معمول بها منذ عهد المستشارة ميركل. وسيحاول الإئتلاف الحاكم رفع هذا السقف اعتماداً على المادة 115 من الدستور الألماني، التي تسمح بالاقتراض في حالة الأزمات و الكوارث. ولكن هذا الأمر يتطلب إجراءات إدراية و قانونية لكي تسمح المحكمة الدستورية بذلك.
6-تقليص المساعدة المالية المقدمة لأوكرانيا:
ستستمر ألمانيا بتقديم المساعدات المالية لأوكرانيا؛ فلقد خصصت 14 مليار يورو لهذا الغرض في ميزانية عام 2024. 8 مليار يورو ستذهب لدعم أوكرانيا بالأسلحة وتعزيز استقرار الميزانية الأوكرانية، و 6 مليار يورو لدعم اللاجئين الأوكرانيين في ألمانيا. ومع ذلك فإن الدعم الألماني لأوكرانيا سينخفض بمقدار 520 مليون يورو في عام 2024.
تؤكد البيانات التي عرضناها في الأعلى أن الإجراءات التي لجأ إليها الائتلاف الحاكم للخروج من أزمة الميزانية ستمسُّ نواحي الحياة كافة في ألمانيا، و سينجم عنها مشاكل اقتصادية قد تنعكس على مجمل الوضع السياسي في البلاد، وهذا ما يفسر تزايد شعبية حزب البديل اليميني المتطرف. إلا أن تقدير عمق الأثر قد يكون سابقاً لأوانه، لذلك فإن السؤال عن التغيرات التي سنشهدها في أسس السياسة الألمانية في عام 2024 هو سؤال مشروع، و سنترك الإجابة عليه للمستقبل، و قد نتطرق إلى هذه النقطة في مقالات لاحقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً