بقلم الأستاذ سفيان حشيفة*
ليس سهلاً أن تتربّع على صحراء شاسعة جدا تفوق ما نسبته 87% من إجمالي مساحة البلاد، وتتّجه بسرعة قصوى نحو الصّدارة الإقليمية والدولية في مجال توفير أهمّ مورد حيوي حياتي للإنسان آلا هو الماء، عبر انجاز وتشييد مشاريع صناعية عملاقة في مجال تحلية مياه البحر، في إطار مساعي تحقيق الأمن المائي الوطني في المدى القريب.
نعم، المُستحيل ليس جزائريًا، فقد أثبت الجزائري معدنه الأصيل والصّلب في مواجهة نوائب الدهر، ومنغِّصات العصر المتداعية من كلّ حدبٍ وصوبٍ، كان آخرها انتصاره المُلهم على أزمة عالمية تفاقمت منذ عقدين بسبب تغيّرات وتحوّلات المناخ وشحّ التساقطات المطرية، طالته على غرار ساكنة كل دول المعمورة، وتجاوزها متسلحاً بأدوات قِوامها الوطنية، والعمل الجاد الكفء، والشّغف بالتميّز في محيطه الجغرافي، مما أسفر في وقتٍ وجيزٍ لا يتعدّى 25 شهراً عن انجاز خمس محطات كبرى لتحلية مياه البحر، كانت بمثابة وديان اصطناعية جديدة تتدفق حياة وأملاً، من أجل تغطية عجز البلد الحاصل في المياه الموجّهة للشرب والفلاحة والصناعة وغيرها من القطاعات السيادية.
وأشرف الرئيس الجزائري، السيد عبد المجيد تبون، قبل أيام، على تدشين أولى مشاريع المصانع منتهية الأشغال في ولاية وهران (الرأس الأبيض)، ستُغطّي ستّة ولايات كاملة بالماء الصالح للإستهلاك متعدّد الإستخدامات اليومية.
كما دشّن الرئيس تبون محطة تحلية المياه بولاية تيبازة (فوكة 2)، ومحطة الطارف (كدية الدراوش)، وستتواصل سلسلة زياراته التاريخية الميدانية لإعطاء إشارة انطلاق محطتي بومرداس (كاب جنات) وبجاية (تيغرمت)، حيث تتمتّع هاته المنشآت الخمسة الجديدة بطاقة إنتاجية سعتها 300 ألف متر مكعب يومياً لكل واحدة منها على حدة (1.5 مليون متر مكعب يوميا)، أيّ ما يعادل مليار ونصف لتر تضخها المحطات يومياً.
هذا الإنجاز المائي الذي نتحدث عنه، هو صنيع بأياد جزائرية، وطاقات مالية وهندسية وطنية صرفة، تبعها جهود عمّالية جبارة في تنفيذ الأشغال بنظام الدّواميْن طيلة أشهر عديدة، بتوجيه خاصٍ من رئيس الجمهورية، بهدف الحدّ سريعاً من مشكل ندرة الموارد المائية، وتعويض النقصان التقليدي الناجم عن تراجع مستوى تعبئة السدود عبر التراب الوطني، وكذا احتواء زيادة الطلب على المياه بسبب النمو الديمغرافي والفلاحي والصناعي وغيرها من القطاعات الإنتاجية الحيوية.
وبلغ غلاف برنامج المركبات الخمسة الصناعية لتحلية مياه البحر، قيمة مالية تقارب 2.4 مليار دولار، وستسمح بتزويد قرابة 15 مليون مواطن جزائري بالمياه المحلاة.
وفي ظل هذا المُعطى، ستتبوأ الجزائر المركز الأول على الصّعيد الأفريقي، والثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية، من حيث القدرة الإنتاجية للمياه المحلاة، بعد رفع مستوى تلبية الاحتياجات الوطنية للشرب بهذا المورد المائي الصناعي من 18 % إلى 42 %.
كما شرعت الجزائر أيضًا، في تنفيذ الشطر الثاني من البرنامج التكميلي، لبناء ستّ محطات جديدة لتحلية مياه البحر تشتغل بالطاقة الشمسية، في خطوة يُرجى منها رفع قدرة إنتاج المياه المحلاة إلى 5.6 مليون متر مكعب يومياً في آفاق سنة 2030، بما يعادل 60 % من احتياجات البــلاد.
وجاء إقرار هذه الخطة الإنمائية الضّخمة قبل سنتين، في إطار رؤية استباقية استشرافية للجزائر تُجاه مسألة تعزيز الأمن المائي وتحقيقه في البلاد، الذي تحوّل إلى رهان عالمي ذو أولوية قصوى، خاصة مع صدور تقارير مناخية تشير إلى تضخم متوسط درجات الحرارة في الشرق الأوسط بمقدار 5 درجات مئوية مع نهاية القرن الـ21، بسبب تغيّرات الطقس الحادّة، ستُحوّل تدريجيا مناطق كثيرة من الإقليم الجغرافي غير صالحة للعيش البشري إذا لم تُتَّخذ الإجراءات المناسبة والسريعة لمواجهة الجفاف، وهو ما تعكف على تجسيده السلطات الجزائرية بكفاءة وصرامة واقعاً، قصد توفير الإحتياجات الحالية للمواطنين على نطاق أشمل، وحتّى ضمان مستقبل مائي أفضل للأجيال القادمة.
وبكفاءة تشغيل هذا النوع من الإنشاءات التنموية الكبرى؛ سيكون قطاع الفلاحة بالتحديد المستفيد الأكبر من الوفرة المائية، من خلال ترشيد وتوجيه جزء معتبر من مستجمعات السدود لصالح الرّي الزراعي، مع إمكانية الترخيص بانجاز محطات لصالح القطاع الأخضر، عبر تمكين مؤسّسات عمومية مملوكة للدولة، حصراً، على غرار شركة كوسيدار –الفرع الفلاحي-، من ذلك، على أن تُشيَّد بتكلفة أقل بإستخدام الطاقة الشمسية، لسقي مساحات شاسعة مخصّصة لإنتاج المحاصيل الإستراتيجية، أو تجسيد استثمارات مليونية لأشجار الزيتون والأرڤان والنخيل والحمضيات.
وفي ضوء ما سبق، تقدّمت الجزائر أشواطاً مهمة على صعيد تحقيق الأمن المائي القومي، من خلال إستراتيجية تشييد منشآت عملاقة لصناعة المياه المحلاة على امتداد ساحلها البحري، بالتوازي مع تطوير مواردها التقليدية الداخلية من سدود ومجمّعات مائية بيئية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سفيان حشيفة – صحفي وكاتب سياسي جزائري
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً