بقلم الدكتور آصف ملحم*
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانوئيل ماكرون حول إمكانية الانخراط المباشر في الحرب الدائرة في أوكرانيا جدلاً واسعاً داخل فرنسا وخارجها. استغلّته بعض الأحزاب في فرنسا لمحاولة رفع قيمة أسهمها السياسية، في حين استنكرها البعض الآخر معتبراً أنها مجرد تخبّط سياسي فرنسي خصوصاً وغربي عموماً.
ألمانيا و بولندا و جمهورية التشيك و هنغاريا أعلنت مباشرةً أنها لن ترسل أي قوات إلى أوكرانيا. كما نأى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج بنفسه عن تصريحات ماكرون. و أكّد أنه (لا توجد خطط لإدخال وحدات قتالية تابعة لحلف شمال الأطلسي إلى أراضي أوكرانيا).
في الواقع، الرئيس ماكرون ترك الباب مفتوحاً للتأويل و التفسير، لأنه أكّد أنه لا يوجد إجماع حول هذه المسألة ولكنه لا يستبعد إمكانية إرسال قوات إلى أوكرانيا إذا تطّلب الأمر.
بالمقابل، روسيا، على لسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أكّدت: (إن مجرد مناقشة إمكانية إرسال وحدات معينة من دول الناتو إلى أوكرانيا هو عنصر جديد مهم للغاية). و أضاف (في هذه الحالة، سيتعين علينا أن نتحدث ليس عن الاحتمال، بل عن حتمية (الصراع المباشر)).
من نافلة القول، قيادات الناتو تعلم جيداً أن الاشتباك المباشر مع روسيا سيؤدي إلى حرب نووية شاملة، ستكون كارثية على الجميع. روسيا أعلنت مراراً وتكراراً أن أي مواجهة مع الناتو سيتم اعتبارها تهديداً وجودياً لروسيا؛ فعدد سكان دول الناتو أكبر من عدد سكان روسيا بحوالي 7 مرات، كما أن الناتو متفوّق على روسيا بالأسلحة التقليدية، أما روسيا فهي متفوقة بالأسلحة النووية.
ضمن هذه المعطيات، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأنه لن يتم إرسال أي قوات ناتوية إلى أوكرانيا، ويجب النظر إلى الأثر الإعلامي والسياسي لتصريحات الرئيس الفرنسي. لذلك قادنا التحليل إلى مجموعة من الفرضيات حول الهدف من هذه التصريحات، أهمها:
1-تجنيد المهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط وبلدان العالم الثالث. فبهذه الطريقة يلعب ماكرون لعبة خفيّة، تهدف إلى تفعيل برامج التعبئة العسكرية باستخدام الإغراءات بمنح الإقامات المؤقتة أو الدائمة أو الجنسية للمهاجرين في فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً.
2-يحاول ماكرون إبراز نفسه كزعيم لأوروبا، خاصة بعد النكسات الاقتصادية التي تعيشها ألمانيا، فلقد كانت ألمانيا المحرك الحقيقي للاقتصاد الأوروبي. لذلك، فرنسا بهذه الطريقة تزاحم بولندا على زعامة الاتحاد الأوروبي، فبولندا منذ أمد بعيد تحلم بإزاحة ألمانيا من هذا المقام.
3-تحضير الرأي العام الفرنسي لزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، وكأنه يضع الشارع الفرنسي أمام خيارين إما الانخراط المباشر في الحرب أو الموافقة على زيادة الدعم. الولايات المتحدة تطالب دائماً فرنسا وألمانيا بزيادة الدعم لأوكرانيا، فنسبة ما يقدمونه ضئيل للغاية مقارنةً مع الناتج المحلي الإجمالي.
4-جس نبض روسيا و الدول الغربية، لأن وضع القوات الأوكرانية سيء للغاية، و الجميع يطرح السؤال الكبير: ماذا بعد انهيار الجيش الأوكراني؟
يبدو بوضوح أنه لا يوجد رؤية واضحة عند الدول الغربية للتعامل مع الأزمة الأوكرانية، كما يبدو أن واشنطن منشغلة في ساحات أخرى وغير قادرة على تحمل أعبائها جميعها.
فضلاً عن ذلك، لا أحد يعلم ماذا يدور في خاطر صانع القرار الروسي بعد دحر القوات الأوكرانية.
5-رسالة للقيادة الروسية بأن أوروبا لن تتخلى عن أوكرانيا بالرغم من الفشل الأوكراني في الميدان، وأن أوروبا قوية وقادرة على مواجهة روسيا.
6-رفع الروح المعنوية عند الأوكرانيين، فالقوات الأوكرانية تعاني من الفشل تلو الفشل والخسارة تلو الخسارة.
7-رسالة للداخل الفرنسي بعد خسارة فرنسا عدة مواقع لها في القارة الإفريقية، وتزايد الضغط الداخلي بعد مظاهرات الفلاحين وبعض القطاعات الحيوية الأخرى، وأسباب هذه المظاهرات مرتبطة مباشرةً بالأزمة الأوكرانية.
بالرغم من هذا وذاك، من الواضح أن انهيار الجيش الأوكراني أصبح وشيكاً، لذلك فالسؤال الجوهري، أي: ماذا بعد؟، الذي طرحناه سابقاً، لم يفقد أهميته. و الحقيقة أن البحث عن إجابة عليه أصبح ملحّاً للغاية؛ لأن أي سيناريوهات غير محسوبة بدقة قد تكون كارثية ليس على أوروبا فحسب، بل على العالم كله أيضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً