إعداد المهندسة سارة ملحم*
برعاية و إشراف مؤسسة BRC العلمية الدولية و عدد من الجامعات العربية الرصينة و بالتعاون مع مركز JSM للأبحاث والدراسات العلمية (موسكو)، نُظِّم بتاريخ 8 أكتوبر الجاري ملتقىً علمياً حول الزواج المدني و الاشتراطات المالية و دورها في استقرار عقد الزواج.
في مجتمعاتٍ تتأرجح بين التقاليد والحداثة، يطفو موضوع الزواج المدني على سطح النقاشات الاجتماعية والثقافية، لا سيّما في ظل التحولات التي تشهدها مفاهيم الحب، والارتباط، والانتماء. فالزواج، الذي لطالما اعتُبر مؤسسة شرعية تُبنى على أسس دينية أو اجتماعية، بات اليوم يُقارب من زاوية قانونية وعاطفية مختلفة، يركّز فيها الأفراد على اختياراتهم الحرة، وحقوقهم، واستقلالهم الشخصي.
ترأست الندوة الدكتورة هبة رمضان رجب، أستاذ مساعد في الجامعة الإسلامية بمنيسوتا وبجامعة أهومى البريطانية في مصر، و حاصلة على دكتوراه في القانون المدني من جامعة بني يوسف(مصر).
قدمت الدكتورة رجب الكلمة الافتتاحية لعدد من المفكرين و الباحثين ليغنوا هذه الجلسة بفكرهم و علمهم و آرائهم.

رأى الدكتور آصف ملحم، مدير مركز JSM للأبحاث و الدراسات العلمية (موسكو)، أن الزواج المدني يحمل إيجابيات محددة، إذ يمنح الشريكين فرصة للتعرّف العميق على بعضهما قبل الارتباط الرسمي، ويشكل اختباراً حقيقياً للعلاقة من حيث تقبّل العيوب والتعايش اليومي. كما يمنح الطرفين إحساسًا بقدر من الحرية الشخصية رغم مشاركتهما تفاصيل الحياة، ويساعد على اختبار الانسجام في إدارة الشؤون المالية، وهي عامل أساسي في نجاح أي علاقة.
غير أن الدكتور ملحم أشار إلى أن سلبيات الزواج المدني تفوق إيجابياته، أبرزها انعدام المساواة بين الرجل والمرأة، إذ غالباً ما تتحمل المرأة مسؤوليات الزواج بينما يحتفظ الرجل بحياة العزوبية. كما أن غياب الإطار القانوني يجعل إثبات الحقوق المالية وتقسيم الممتلكات أمراً صعباً، خصوصاً في حال وجود أطفال. ويؤدي ذلك إلى انعدام الأمان والاستقرار الأسري، إضافة إلى احتمال تفشي العنف اللفظي والجسدي نتيجة ضعف الالتزام القانوني والأخلاقي. لذلك خلص الدكتور ملحم إلى أن الزواج المدني، رغم مرونته الظاهرية، يظل علاقة غير مستقرة ومعرّضة للتفكك في غياب الضمانات القانونية والاجتماعية.
تساءل الدكتور ميثاق بيات الضيفي رئيس مؤسسة BRC العلمية الدولية، عن من يملك الحق في تعريف القلب في زمن صارت فيه المشاعر تُقاس كما تُقاس المعادلات، وتحولت العواطف إلى أدوات قانونية تُدار بالأرقام أكثر من كونها روابط إنسانية. وأوضح الدكتور الضيفي أن المشكلة ليست في الزواج المدني بحد ذاته، بل في تحويل الحب إلى مادة قابلة للاستثمار والاستبدال، بحيث صارت العلاقات تُدار عبر المحامين أكثر من أن تُبنى على المودة.
وأضاف أن الحب اليوم أصبح عملة رمزية في سوق العلاقات، تُقاس قيمته بالرغبة لا بالديمومة، وأن الزواج، بدل أن يكون تجربة إنسانية، قد يتحول إلى صفقة عقلانية تُدار بالأرقام. لذلك، أشار الدكتور الضيفي إلى أن العالم لا يحتاج إلى قوانين جديدة بقدر ما يحتاج إلى روح قانونية تحمي العاطفة وتعطيها مكانتها الإنسانية، مؤكداً أن الخلل يكمن في النفوس والنوايا، وداعياً إلى مشروع حضاري جديد يجعل الحب قيمة مصانة والتشريعات انعكاساً للأخلاق الإنسانية الرفيعة.
تحدث الأستاذ الدكتور جمال عياشي رئيس مخبر قانون الأسرة، جامعة الجزائر الأولى(الجزائر )، عن أهمية الحقوق المالية الزوجية في استقرار الحياة الأسرية، موضحًا أنها تشمل الحاجيات الأساسية مثل الغذاء والكسوة والدواء، وتختلف عن الحقوق المعنوية المرتبطة بالجوانب النفسية والعاطفية مثل التودد والتراحم. وأكد أن استقرار الحياة الزوجية يقوم على المودة والتراحم، إذ يساهمان في بناء ترابط متين بين الزوجين، بينما تلعب الحقوق المالية دورًا مؤثرًا في تعزيز هذا الاستقرار.
وأشار إلى أن الوفاء بهذه الحقوق يمكن أن يتم بطريقتين: الوفاء الودي الذي يمثل الأساس وجوهر عقد الزواج ويعتمد على التعاون والتفاهم المتبادل، والوفاء القضائي الذي يُلجأ إليه في حال النزاع، مع تنويه أن الاعتماد على الأخير وحده قد يؤدي إلى آثار سلبية على العلاقة الزوجية. وأكد الدكتور عياشي أن الوفاء بالحقوق المالية هو عماد استقرار الأسرة، إذ يعزز قوامة الزوج الشرعية ويثبت مكانته كمعيل ومسؤول، كما أن استيفاء الحقوق دون مطالبة يظهر الكرم والاهتمام ويخلق بيئة من الاحترام المتبادل داخل الأسرة.
تحدثت الدكتورة زينة قدرة لطيف أستاذة القانون المدني، كلية القانون والعلوم السياسية، الجامعة العراقية(العراق) عن الزواج المدني وعلاقته بالاقتصاد العاطفي، مشيرةً إلى أن هذا النوع من الزواج أثار جدلًا واسعًا حول مدى قدرة المشاعر وحدها على إقامة عقد قانوني مستقر. فمن جهةٍ، يشكّل الزواج المدني إطارًا بديلًا عن الزواج الديني أو العرقي، غير أنه يخضع في المقابل إلى قواعد مدنية خالصة تجعل العاطفة تتحرك ضمن مقاييس القانون والاقتصاد بدلًا من أن تستند إلى قيم المودة والرحمة فقط.
وترى الدكتورة لطيف أن الحب والانسجام الروحي يمثلان نقطة الانطلاق في أي علاقة زوجية، إلا أنهما لا يكفيان وحدهما لإدامة عقد قانوني، لأن القانون – بطبيعته – يفتقر إلى الآليات التي تمكنه من قياس المشاعر أو ضبط امتداداتها. ومن ثمّ، يظهر الفرق الجوهري بين العاطفة باعتبارها دافعًا ذاتيًا ينبع من داخل الإنسان، والقانون باعتباره منظّمًا خارجيًا للعلاقات يهدف إلى تحقيق التوازن والعدالة.
وعلاوةً على ذلك، أوضحت أن القانون المدني، حين ينشئ التزامات مثل النفقة والمهر واقتسام الأموال بعد الزواج، فإنه عملياً يحوّل العاطفة إلى التزام قابل للتنفيذ القضائي، لتصبح المشاعر ذات بعد اقتصادي واضح وقيمة تفاوضية داخل العقد. وبالتالي، لا يمكن إنكار أن الزواج المدني قد واجه انتقادات بدعوى تجريده من قدسيته وتحويله إلى معاملة تجارية، غير أن الصحيح – بحسب رأيها – أنه يعيد صياغة العلاقة الزوجية على أساس التوازن بين المشاعر كقيمة إنسانية والالتزامات الاقتصادية كضمان للاستقرار.
أشار الأستاذ المهندس الدكتور كاظم فخري علي من كلية القانون في جامعة الكاظم(العراق)، إلى أن الشرع والقانون يتفقان على عدم جواز تعليق عقد الزواج على شرط أو حادثة مستقبلية، لأن ذلك يؤدي إلى بطلانه من حيث الأصل، ومن ثمّ لا يدخل هذا النوع من الشروط ضمن نطاق البحث في استقرار عقد الزواج. غير أن الحديث، كما أوضح، ينصبّ على الشروط المالية المقترنة بالعقد، والتي تناولها المشرّع في المادة (131) من القانون المدني، حيث أجاز اقتران العقد بشرطٍ يؤكد مقتضاه أو يلائمه أو يجري به العرف والعادة، شريطة ألا يكون مخالفًا للنظام العام أو الآداب العامة.
وبيّن الدكتور علي أن من بين هذه الشروط المالية المشروعة ما يمكن للزوجة أن تشترطه وقت العقد أو بعده، كأن تُلزم الزوج بدفع المهر المؤجل مضاعفًا في حال تأخره عن السداد بعد المطالبة به. ويرى أن هذا النوع من الشروط يُسهم في إجبار الزوج على المحافظة على الرابطة الزوجية واستمرارها، خشية أن يواجه تبعات مالية مضاعفة في حال الإخلال بالتزاماته، ولا سيما في أوقات العُسر المالي. ومن ثمّ، يصبح هذا الشرط وسيلة غير مباشرة لحماية استقرار العلاقة الزوجية وردع الإهمال أو التسويف في أداء الحقوق.
وفي ختام مداخلته، أوصى الدكتور علي بضرورة تبني مشروع عراقي وعربي موحد يهدف إلى وضع قائمة واضحة بالشروط المالية المشروعة التي تضمن الحفاظ على الرابطة الزوجية من الانحلال، بدل ترك الأمر لاجتهادات قضائية فردية تعاني من عدم الاستقرار والتباين في الأحكام.
تطرقت الأستاذة مونية منصوري، عضو مخبر قانون الأسرة في كلية الحقوق ( جامعة الجزائر الأولى)، إلى مآلات الاشتراطات المالية بعد انحلال الرابط الزوجي، مستندة إلى قانون الأسرة الجزائري، حيث أبرزت أن القانون يسمح للزوجين بالاتفاق على تحليل الأموال المكتسبة بعد الزواج على سبيل المشاركة. ومن جهةٍ أخرى، أشارت إلى أن الفقهاء اعتبروا جميع الشروط في عقد الزواج باطلة إلا ما أقرّه القانون صراحة، وهو ما يعكس مبدأ حرية الإرادة في التعاقد، إذ يُسمح بالاشتراطات المالية ما دام ذلك يعود بالنفع على أحد الزوجين أو كليهما، شرط ألا يتعارض مع مقتضيات عقد الزواج ومقاصده الشرعية.
وفيما يتعلق بتأثير الطلاق على هذه الاشتراطات المالية، أكدت الأستاذة منصوري أن الطلاق يؤدي إلى تفعيل الحقوق المالية المتفق عليها وتنفيذها وفقًا لمبدأ العقد الشرعي للمتعاقدين، بينما في حال غياب اتفاق صريح بشأن الأموال المشتركة، يُطبّق القانون المدني والقواعد العامة المعمول بها. ومن ثمّ، أوصت الأستاذة بضرورة توثيق الاتفاقات المالية ضمن عقد الزواج أو عقد رسمي، معتبرة أن ذلك يضمن حماية الحقوق واستقرار الأسرة ويعزز التوازن بين حرية الأطراف والالتزامات المالية، بما يحقق الاستقرار المالي والمعنوي للعائلة.
افتتح الدكتور مثنى وعدالله النعيمي،دكتور في كلية القانون تخصص أحوال شخصية (العراق)، مداخلته بالإشارة إلى أن الاشتراطات المالية بين الزوجين أصبحت من أبرز المسائل التي تشغل الفقهاء والمشرعين المعاصرين، خاصة في العقود الحديثة، إلا أنها قد تتحول أحيانًا إلى مصدر نزاعات قانونية وعائلية. وأوضح أن القانون العراقي يسمح بالاشتراطات المالية المتعلقة بالمهر وطريقة دفعه، والنفقة والسكن والمعيشة، والمالية المستقلة لكل من الزوجين، بالإضافة إلى توزيع الأموال المشتركة أو التنازل عن بعض الحقوق المالية والميراث، بما يعكس توازن الالتزامات وحماية حقوق الطرفين.
كما أشار الدكتور النعيمي إلى أن هذه الاشتراطات تواجه عدة إشكاليات عملية، منها غموض صياغة بعض الشروط، وإساءة استخدامها كوسيلة للضغط على أحد الزوجين، وأحيانًا تعارضها مع أحكام القانون أو الشريعة، إضافةً إلى صعوبة إثبات الشرط إذا لم يُدرج صراحة في عقد الزواج. ومن ثمّ، أكد على ضرورة توثيق هذه الشروط رسمياً ودقتها في الصياغة لضمان حماية الحقوق واستقرار الأسرة.
وعن التوصيات العملية، أكدت الدكتور النعيمي على ضرورة تضمين الشروط المالية في عقد الزواج بشكل رسمي وواضح، وإعداد نماذج إرشادية موحدة من قبل المحاكم لتوحيد صياغة الشروط. كما دعا إلى تعزيز الوعي القانوني والشرعي لدى المقبلين على الزواج، وأشار إلى أهمية تفعيل دور القضاء الشرعي في مراقبة مشروعية الشروط، مع الاستفادة من تجارب الدول العربية التي نجحت في تنظيم الاشتراطات المالية لضمان استقرار العقود وحماية الأسرة.
عرّفت الأستاذة إيناس بنت الجميل الحمروني محامية من تونس،الزواج المدني بأنه ظاهرة اجتماعية تتسم بتداخل ثلاثة أبعاد متكاملة: البعد العاطفي والإنساني، والبعد القانوني، والبعد الاقتصادي. وأوضحت أن الزواج المدني يخضع لمعايير قانونية واضحة تشمل موافقة الطرفين، السن القانوني، والتوثيق الرسمي للزواج، وهي شروط تهدف إلى حماية الطفل وضمان حرية الاختيار في الزواج، بما يعكس الالتزام بحقوق الإنسان والحريات الشخصية.
وأكدت الأستاذة الحمروني أن الزواج المدني يرتبط بالأموال والمهر والملكية الشرعية والمصارف الأسرية، حيث تنظم القوانين المدنية الحقوق المالية للزوجين لتجنب استغلال العاطفة. كما أشارت إلى أن اختيار الشريك لم يعد قائماً على الحب فقط، بل يشمل الوضع الاقتصادي، الاستقرار المهني، المستوى التعليمي، الاندماء الاجتماعي، والثقافة.
وختمت الأستاذة الحمروني مداخلتها بالإشارة إلى أن الزواج المدني يجمع بين العاطفة والقانون والمجتمع والاقتصاد في علاقة جدلية مستمرة، مؤكدةً أن استقرار المستقبل يعتمد على تفاعل القانون والمجتمع معًا لإيجاد توازن يحمي الحب والحقوق القانونية والمسؤولية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المهندسة سارة ملحم – كاتبة صحفية، مهندسة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
