بقلم الدكتور آصف ملحم
لا أعتقد أن المتابع للشأن الأوكراني كان سيتفاجأ بإعلان التعبئة الجزئية في روسيا؛ فلقد سبق هذا الإعلان فترة من الهدوء، تتفق العديد من المصادر المقربة من الكرملين على أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة!
علاوة على ذلك، منذ أسابيع وعبارتا (بداية الخريف) و (انحسار الخضرة) تترددان في الأوساط الصحفية الروسية المختلفة؛ فعبارة (انحسار الخضرة) تعني سقوط أوراق الشجر الخضراء في الغابات؛ وتستعملها القوات المسلحة الروسية للدلالة على دخول فصل الخريف وبالتالي عجز العدو عن استخدام الأشجار والنباتات للتمويه والتخفي وبالتالي شن هجومات معاكسة ضد القوات المتمركزة في البلدات الأوكرانية المختلفة.
لقد أصبحت اللعبة مكشوفة تماماً للجميع؛ فروسيا شنت عمليتها العسكرية الخاصة لحماية الناس في أوكرانيا؛ لم يكن إنهاء نظام حكم زيلينسكي هدفاً من أهداف روسيا، كما أنه لم يكن من أهدافها ضرب مراكز صنع القرار أو ضرب البنى التحتية الإستراتيجية في أوكرانيا! إلا أن الغرب بدلاً من الإصغاء إلى مطالب روسيا وهواجسها الأمنية؛ والتي أعلنت عنها مراراً و تكراراً، تصريحاً و تلميحاً، شفاهاً و كتابةً، أمام الأشهاد و في الكواليس؛ بدأ النفخ في أنف زيلينسكي وضخ السلاح والعتاد إلى قوات هذا المقامر؛ لا بل أدخلت زيلينسكي والعالم المخدوع بضخهم الإعلامي غير المسبوق في حالة من الإيفوريا ونشوة الإنتصارات الوهمية، التي تسابق على تقييمها ودراستها الباحثون والخبراء والمحللون في وسائل الإعلام المختلفة.
لا هم للغرب سوى جني المال على حساب دماء الناس في أوكرانيا؛ لذلك سيفعلون كل مافي وسعهم لكي تستمر هذه الحرب أكثر وأكثر، لا بل إنهم أعاقوا ويعيقون كل فرصة للسلام بين الطرفين؛ وإلى هذه النقطة أشار السيد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في خطابه في مجلس الأمن الدولي بتاريخ 22 أيلول الجاري، حيث قال: (في إسطنبول، كاد المتفاوضون، الروس والأوكران، أن يتفقوا على العناصر التي طرحتها كييف لتسوية النزاع، وبعد يومين فقط بدأت مأساة مدينة بوتشا. لا يوجد عندنا أي شك بأنها حادثة مدبرة.)، وأضاف: (بعد تحقق الهدف الدعائي لهذه المأساة، نسي الجميع بوتشا، ولا أحد يتذكرها، غيرنا طبعاً).
تكررت مأساة بوتشا نفسها في مدينة إيزوم، في مقاطعة خاركوف؛ إذ تصاعد الحديث عن مقابر جماعية ومجازر ارتكبتها القوات الروسية في هذه المدينة بحق السكان المدنيين؛ مع العلم أنه يوجد العديد من الفيديوهات القديمة، التي تؤكد أن هذه الجثث تعود لجنود أوكرانيين تركهم الجيش الأوكراني وانسحب، فقام الجيش الروسي بالتعاون مع الأهالي بجمع هذه الجثث ودفنها بجانب إحدى المقابر الرسمية التابعة للمدينة.
لا أحد، في أوروبا أو الولايات المتحدة، مهتم بالحقيقة على الإطلاق؛ لذلك نراهم في سباق محموم لتشويه سمعة روسيا واستثمار أي حادث لتأجيج الرأي العام ضدها، وصب الزيت على نيران الحرب المشتعلة هناك. وليس هذا فحسب، بل أن الولايات المتحدة مستعدة للمقامرة بمستقبل أوروبا كلها بصمتها المريب عن القصف الأوكراني المستمر لمحطة زاباروجيا النووية، التي قد يؤدي أي حادث فيها إلى كارثة بيئية تؤثر على كل أوروبا الشرقية والدول التي تشاطئ البحر الأسود.
أمام هذا الواقع المؤلم، ما الحلُ؟ ما التدبيرُ؟ ما العملُ؟
هل ستبقى روسيا رهينة لهذا الابتزاز، الذي قد لا ينتهي، والذي سيؤدي، في النهاية، إلى إستنزافها و إضعافها؟
لا أعتقد أن القيادة الروسية لا تدرك هذه الحقائق! لذلك، للإجابة على هذه الأسئلة و استجلاء الصورة لا بد من الإجابة على سؤال جوهري، يرتبط مباشرة بالعملية العسكرية التي قامت بها روسيا، وهو:
ما هو النصر الذي تبحث عنه روسيا؟
لقد قامت روسيا بهذه العملية العسكرية لحماية السكان ذات الأصول الروسية والناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا؛ فهؤلاء يتعرضون لحملة إبادة جماعية و لكل أنواع المضايقات من قبل نظام كييف؛ لذلك فالنصر الحقيقي هو إعادة الحياة في المناطق التي يقطنونها إلى مسارها الطبيعي؛ بحيث تتوفر الخدمات التعليمية والصحية والثقافية وتكون البنى التحتية صالحة للحياة والأمن مستتب في كل مكان. لذلك نلاحظ أن نظام كييف دأب ويدأب على عدم توفير هذه الظروف لروسيا؛ فهو يقصف البلدات والمدن بشكل عشوائي، كما أن قواته، بعد كل هجوم معاكس، تعيث فساداً وتنكيلاً بالسكان في تلك المناطق، فالتهمة جاهزة دائماً وهي العمالة للروس. فلم يكن هدف نظام كييف، والغرب من ورائه، تأمين حياة الناس في تلك المقاطعات، بل عقاب هؤلاء الناس لأنهم لم يقبلوا بالإنقلاب العسكري المسلح، المدعوم من الديمقراطيات المزعومة في أوروبا والولايات المتحدة، الذي قامت به المجموعات النازية في عام 2014.
لقد استنفذت روسيا كل الفرص الممكنة للوصول إلى حلول سلمية، تحقن دماء الناس؛ وما ذلك الهدوء الذي سبق التعبئة الجزئية والانسحاب من مقاطعة خاركوف سوى فرصة أخيرة! لكن للأسف، لم يتلقف نظام كييف هذه الفرصة؛ لا بل إنه إستمرأ الهجومات المعاكسة، وأعد العدة للهجوم على المقاطعات التي يجري فيه الإستفتاء الآن، وهذه الحقيقة المرة أصبحت واضحة أمام روسيا وضوح الشمس في رابعة النهار!
بناءً على ما تقدم، ستكون الأسابيع المقبلة عجفاء خشناء شديدة على زيلينسكي ومن خلفه؛ ففي هذه الجولة لا يوجد خطوط حمراء وستضرب روسيا بيد من حديد في كل مكان من أوكرانيا، و قد تضطر إلى ضرب تلك الدول التي تقدم السلاح إلى نظام كييف؛ فروسيا، بالرغم من طول المدة وشدة المحنة، صبرت بما فيه الكفاية و حزمت أمرها ولم يبقَ أمامها سوى إزالة هذا النظام من جذوره؛ و خطاب بوتين لم يكن سوى الإنذار الأخير للدول الغربية؛ فروسيا لم تشن هذه الحرب إلا لتنهيها وفق شروطها وليس كما يحلو لزيلينسكي ومن خلفه!
= = =
*هذه المقالة نشرت أولاً في موقع رياليست عربي بتاريخ 25 أيلول 2022.
للإطلاع عليها انقر هنا.