بقلم الدكتور آصف ملحم*
أعتقد أن كل من يتابع الأحداث العالمية و التغيرات التي يشهدها العالم كان ولا بد أن يتنبأ بأن جبهة الشرق الأوسط قد تسخن في لحظة ما. هذا بالرغم من كل الدعوات و الجهود التي بُذلت للتهدئة والمصالحات، التي شهدنا نتائجها في الأشهر الأخيرة.
يكمن الهدف الحقيقي لزعزعة استقرار هذه المنطقة في المزاج السلبي الذي تشكل في المجتمعات الغربية على خلفية إخفاقات السياسات الغربية في التعامل مع الصراع في أوكرانيا. و سنفصل في هذه النقطة في الفقرات اللاحقة.
بناءً على ذلك، فإننا نعتقد أنه تم تسهيل أو تمرير عملية (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر الماضي. و هناك العديد من القرائن التي تدل على أن القيادات الإسرائيلية و الأمريكية كانت على علمٍ بأنه قد يحدث شيء ما في المنطقة.
في هذا السياق، يجب أن نفصل بين أمرين:
-شرعية مقاومة الاحتلال، فلكل شعب الحق في مقاومة الاحتلال و الكفاح المسلح حتى يتمكن من تحرير أرضه، و هذا تكفله جميع الشرائع و القوانين.
-الاستثمار السياسي الأمريكي لما حدث في 7 أكتوبر.
وفي نفس السياق، يجب أن لا نعتقد بأن هناك اختراق أمني للفصائل الفلسطينية. ما نستطيع تأكيده حول هذه النقطة أن أجهزة الاستخبارات في العالم تراقب كل شيء، وتجمع المعلومات، و قد تلجأ إلى دس معلومات مضللة للأطراف الأخرى. لذلك يمكننا الافتراض بأنه حدث تضليل ما للفصائل الفلسطينية؛ لأنه في ساعة الهجوم كان هناك مهرجان موسيقي و فيه العديد من الأجانب، و لا أعتقد أنه كان عند فصائل المقاومة النية، و ليس لها أي مصلحة أيضاً، أن تأسر شخصيات أجنبية موجودة في إسرائيل. ولكن التخطيط للعملية شيء و سيرورة الأحداث أثناء تنفيذها شيء آخر مختلف تماماً.
من هنا ندرك سبب هذه الاندفاعة الأمريكية و الغربية السريعة لدعم إسرائيل، و إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة لأن الهدف الحقيقي أبعد من حماس، و المسؤولون الإسرائيليون و الأمريكيون عبروا عن ذلك بوضوح تام. فضلاً عن ذلك، خاضت غزة العديد من الحروب مع إسرائيل في السنوات السابقة، إلا أننا لم نشهد فيها هذه الاندفاعة الغربية الغريبة.
لذلك يصبح السؤال الجوهري حول كا ما يجري:
ماهي الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية، وهل ستتمكن من إدارة هذا الصراع في هذه المنطقة المعقدة من العالم؟
من نافلة القول، تقوم السياسية الخارجية الأمريكية على ثلاثة قوائم: أوروبا، الشرق الأوسط، منطقة آسيا و المحيط الهادي. يبدو بوضوح أن الولايات المتحدة غير قادرة على فعل أي شيء في أوروبا، و أوكرانيا تحديداً، نظراً لوجود روسيا. كما أنها ستصطدم بالصين في منطقة آسيا و المحيط الهادي. أما منطقة الشرق الأوسط فهي أكثر المناطق هشاشة من الناحية الأمنية.
فضلاً عن ذلك، تشهد منطقة الشرق الأوسط تمدداً صينياً-روسياً واضحاً، خاصة بعد قبول طلبات مصر و السعودية و الإمارات و إيران للانضمام إلى مجموعة بريكس، مقابل انسحاب استراتيجي أمريكي شامل للولايات المتحدة بعد عقود من التحكم بسياساتها، الأمر الذي لم يجلب لها لا الأمن و لا الاستقرار.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تحاول استثمار جميع الدول قدر المستطاع لتحقيق مصالحها في هذه المنطقة أو تلك. لذلك يصبح السؤال عن قابلية المنطقة للاختراق سؤالاً مشروعاً؟
في منطقة الشرق الأوسط يوجد معضلتان:
الأولى-كيفية إثارة الفوضى في هذه المنطقة مع المحافظة على أمن إسرائيل و وجود إسرائيل كدولة.
الثانية-كيفية إزاحة القضية الفلسطينية من أذهان الناس و عقولهم.
وضوحاً، فشلت الولايات المتحدة في المعضلة الثانية، بالرغم من كل محاولات التسويق و الترويج لوصم الفصائل الفلسطينية عموماً، و حماس و الجهاد خصوصاً، بالإرهاب، و تشبيههم بداعش. فالفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال تحظى بحاضنة شعبية، فلسطينية و عربية و عالمية، واسعة؛ فهذه الفصائل تدافع عن حق معترف به من قبل كل الهيئات الدولية و معظم دول العالم. وخير دليل على ذلك هو المظاهرات العارمة في كل دول العالم و التصويت الواسع على القرار الصادر في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 27 أكتوبر الماضي.
أما المعضلة الأولى، فيبدو أن الولايات المتحدة ما زالت حائرةً فيها، فهي من جهة تريد أن تدفع إسرائيل لخوض معارك لا تخدم مصالحها، ومن جهة ثانية تريد المحافظة على إسرائيل كدولة. و هذا يذكرنا بما حدث في عام 2006 في الحرب الإسرائيلية-اللبنانية، فبعد عدة أسابيع من القتال بدا بوضوح أن إسرائيل متعبة و تريد إيقاف الحرب، إلا أن الولايات المتحدة كانت تريد الاستمرار في الحرب! عندها قال بعض المسؤولين الإسرائيليين: لا يمكننا الحرب نيابة عن الولايات المتحدة أو لمصلحتها. و جميعنا يتذكر قول كونداليزا رايس، وزير الخارجية الأمريكية، في وصف تلك الحرب بـ (إنها آلام مخاض ولادة شرق أوسط جديد).
لذلك يبدو بوضوح أن المعادلة التي حاولت الولايات المتحدة تطبيقها قي أوكرانيا، و هي الحرب حتى آخر أوكراني، لا يمكن تطبيقها في إسرائيل. فلإسرائيل الكثير من عناصر القوة في داخل الولايات المتحدة، من جماعات ضغط و لوبيات، و دفعها في هذا الاتجاه غير ممكن، هذا من جهة، من جهة ثانية، سأمت منطقة الشرق الأوسط سياسات واشنطن، التي لم تجلب لها سوى الويلات، لذلك فإن أي ضغط غير محسوب قد يقود إلى الانفجار، الذي سيضع إسرائيل في مهب الريح.
إسرائيل كدولة هي كيان هش، يصعب دمجها في أي فضاء جيوسياسي أو ضمن أي تكتل، فدمجها ضمن محيطها سيؤدي إلى فقدان وظيفتها الأساسية، و هي المحافظة على عدم الاستقرار في المنطقة، و هذا لن تسمح به الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. لذلك فإن القول (كانت الغاية من عملية (طوفان الأقصى) إيقاف موجة التطبيع مع إسرائيل في المنطقة) لا يجانب الصواب إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية صانع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية. فعبارة (السلام يدمرنا) تكررت على لسان العديد من المسؤولين الإسرائيليين في العقود الماضية، فهم يفهمون جيداً أنهم أنشأوا دولة غريبة عن محيطها الثقافي و التاريخي؛ فهذه الدولة تشبه الشركة، التي تضطر لتغيير مكان وجودها عندما تصبح الظروف غير مواتية.
لذلك، وفق تقديرنا، من الناحية الاستراتيجية، تريد الولايات المتحدة دفع المنطقة الممتدة من الشرق الأوسط حتى وسط آسيا إلى شكل من أشكال الفوضى، على أن تكون قادرة على الإمساك بخيوط اللعبة دائماً و التحكم بمجريات الأحداث، و على أن تكون إسرائيل هي رأس الحربة في ذلك، أي دون تدخل أمريكي مباشر، و دون أن يتزعزع استقرار إسرائيل أيضاً. من هنا نفهم تحذير الرئيس بوتين من أن الحرب في غزة قد تتخطى حدود الشرق الأوسط. فزعزعة الاستقرار في هذا الفضاء الكبير سيؤدي إلى وأد مشروع الصين العملاق (الحزام و الطريق)، كما أنه سيقضي على الجهود التنموية الروسية-الصينية.
تأسيساً على ما سبق، فإننا نعتقد أن الهدف الرئيسي الولايات المتحدة هو عرقلة الجهود الروسية-الصينية في دمج منطقة الشرق الأوسط ضمن ما نسميه الفضاء الأوراسي الكبير، وبالتالي تحويله إلى منطقة نفوذ روسي-صيني. بهذه الطريقة ستتمكن واشنطن من احتواء الصين و ردع روسيا؛ فواشنطن لم تخفي نواياها و رغبتها باحتواء الصين و روسيا. لكن السؤال الصعب، الذي على ما يبدو لم يطرحه صانع القرار الأمريكي، هو: كيف سنقوم بذلك؟
على مستوى التكتيك و إدارة الصراع، فإنني أعتقد أن الولايات المتحدة ستحاول إشعال جبهة ما و المساومة و التجارة في جبهة أخرى؛ فهناك من هو مستعد للحرب، و هناك من قد يقبل بالمساومة. لذلك فإنه من الصعب التكهن بمدى نجاح واشنطن في ذلك.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أنه لو بحثنا عن تعريف للاستراتيجية في الأدبيات السياسية الأمريكية فإننا سنحصل على تحديد واحد بأن الاستراتيجية هي (مغامرة)! لذلك لا عجب في أن لا يفكر صانع القرار الأمريكي بأي عواقب لأي سلوك أو تصرف أو حادث، خاصة إذا كان مسرح الأحداث بعيداً عن الولايات المتحدة.
لذلك، وفق تقديرنا، فإن السيناريو التي تحاول واشنطن الدفع به هو استدراج حزب الله إلى هذه الحرب، من هنا نلاحظ أن الحزب يلتزم قواعد الاشتباك في العلاقة مع إسرائيل فحسب. سيقود هذا الاستدراج إلى تدخل سوري-إيراني، وبالتالي إمكانية تدحرج الصراع نحو أفغانستان و آسيا الوسطى.
فيما يتعلق بآسيا الوسطى لا بد من الإشارة إلى الزيارات المتكررة لقائد القيادة المركزية الأمريكية (مايكل كوريلا) لدول آسيا الوسطى، ولقائه العديد من المسؤولين الأمنيين في تلك الدول، بهدف إعادة الهيكلية الأمنية في أفغانستان. وهذا يدل على الرغبة الأمريكية باستعادة النفوذ في هذه المنطقة.
علاوة على ذلك، فإن نيران الصراع في جنوب القفقاز بين أذربيجان و تركيا من طرف و أرمينيا من طرف آخر لم تخمد. فأذربيجان تسعى سعياً حثيثاً لإنشاء ممر سيونيكسكي لوصل جزئيها ببعضهما البعض. ولقد أشار وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى احتمال هجوم أذربيجان على أرمينيا، كما أن العلاقة بين أذربيجان و إسرائيل متطورة بشكل كبير. وعند وصول الأحداث إلى آسيا الوسطى و القفقاز ستجد روسيا و الصين نفسهما مضطرتين للتدخل.
إلا أن إشعال الصراع شيء و إدارته و التحكم به شيء آخر مختلف كلياً، ويبدو أن الولايات المتحدة فقدت القدرة على رؤية الواقع كما يجب. فتحريض صراع في هذه المنطقة، بحد ذاته، يعكس أزمة جديدة في المنظومة الفكرية الغربية عموماً. تتمحور هذه الأزمة حول محاولة خلق واقع مُتخَيل والسعي الحثيث لتجسيده. لذلك فإننا نعتقد أن الولايات المتحدة قد خسرت كل أوراقها تقريباً في المنطقة وتعيش حالة من التخبط وليس أكثر.
ستكون النتيجة الحتمية للصراع في غزة، إما تحقيق نصر استراتيجي على إسرائيل، سيقود في النهاية إلى زوالها من الوجود، إذا أحسنت دول المنطقة إدارة الصراع. أما إذا لم تحسن دول المنطقة إدارة المعركة فإنها ستكون أمام طور جديد من الفوضى، التي لم تجر عليها سوى الويلات و المآسي.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً