بقلم الدكتور آصف ملحم*
كثُر الحديث في الأيام الأخيرة عن مجموعة من الوثائق العسكريّة السريّة الأمريكيّة التي تمّ تسريبها على شبكة الإنترنت، ولقد تناولتِ الموضوعَ كبرى وسائل الإعلام في العالم.
في هذا التحقيق سنحاول إلقاءَ الضوء على هذه القضية وبحث أبعادها المختلفة.
أعتقد أنّ التحقيق في صحة هذه الوثائق عسيرٌ للغاية الآن، خاصةً أنّه تمّ حذف معظمها من شبكة الإنترنت وبقيت (7) وثائق، لا يبدو أنّها ذات أهمية كبيرة، كما أنّ شكلها لا يسمح بالتحقيق في كونها صحيحة أو أنها مصممة على الكمبيوتر.
أكثر ما يثير الانتباه في هذه القصة هو الحبكة الدرامية، لذلك فإنني أعتقد أنّ التوقّف عند هذه النقطة تحديداً سيساعدنا في استكشاف الحقيقة كاملةً.
سنبدأ ببناء التسلسل الزمني لانتشار هذه الوثائق، معتمدين على روايات وسائل الإعلام الأمريكية وتحقيقات موقع bellingcat (انظر الشكل (1))، وحول هذا الموقع يوجد العديد من الشبهات، قد نتكلم عنها في مناسبات أخرى.
مرت هذه الوثائق بـخمس مراحل:
الأولى: كانت هذه الوثائق موجودة على المنصة الاجتماعية ديسكورد بين الثالث عشر من يناير والرابع من آذار.
الثانية: انتقال بعض هذه الوثائق إلى المنتدى 4chan في الخامس من أبريل.
الثالثة: ظهور هذه الوثائق على قناة (فتاة الدونباس) بعد ساعتين فقط.
الرابعة: تناقل كثيف لهذه الوثائق على قنوات التلغرام الروسية بين الخامس والسابع من نيسان.
الخامسة: بدأت وسائل إعلام أمريكية كبيرة الحديث عن الموضوع ابتداءً من مساء السابع من نيسان.
وفق هذه التحقيقات كانت هذه الوثائق موجودة أصلاً على المنصة الاجتماعية (ديسكورد)، وظهرت أولاً على
السيرفر Thug Shaker Central، وكان عددها كبيراً جداً، يعود بعضها إلى 13 يناير. وفقاً لمستخدمي هذا السيرفر، فإنّ اسم السيرفر تغيّر كثيراً.
بين الأول من آذار والثاني من آذار قام مستخدم ما بنشر حوالي 30 وثيقةً على السيرفر واو ماو Wow Mao، وهذه الوثائق جميعها ممهورة بختم (سري للغاية). كما أنّ هذا المستخدم نفسه نشر عشرات الوثائق الأخرى على هذا السيرفر إلا أنه تم حذفها بتاريخ 7 أبريل.
أكّد أحد مستخدمي السيرفر الأول Thug Shaker Central واسمه فاخي Vakhi، ومستخدمون آخرون أيضاً، أنّ ما تمّ تمريره من وثائق من هذا السيرفر إلى السيرفر Wow Mao هو غيض من فيض مقارنة بعدد الوثائق التي كانت موجودة هناك.
السيرفر (واو ماو) متخصص بصناعة مقاطع الفيديو القصيرة الفكاهية (الكليبات)، وله حساب على تويتر وأنستغرام، ويبدو أن صاحب هذه القناة موجود في بريطانيا.
في الرابع من آذار، على السيرفر Minecraft، حصلت مشاحنة كلامية بين المستخدمين حول الحرب في أوكرانيا، فقام أحدهم بالرد: هنا بعض الوثائق المسرّبة، وقام بنشر 10 وثائق بعضها ممهور بخاتم (سري للغاية).
وفقاً لهذا التحليل؛ بدأت هذه الوثائق بالظهور على المنصة الاجتماعية ديسكورد منذ 13 يناير، وتم تداولها بين سيرفرات ومستخدمي هذه المنصة حتى الرابع من آذار.
ثم تمر فترة من الهدوء وعدم الاهتمام بالموضوع حتى تاريخ الخامس من نيسان، حيث تظهر ثلاثة منها على المنتدى 4chan، قام بنشرها مستخدم يحمل الرمز CXWfLHRB، سنسميه اختصاراً (المستخدم سي). نشر هذا المستخدم سي 8 بوستات متتالية بين الساعتين 18:33 و 19:11 بتوقيت موسكو (انظر الشكل (2)).
جميع هذه البوستات معادية لروسيا. هذا المستخدم مشار إليه على أنه موجود في الولايات المتحدة الأمريكية.
في ذلك اليوم نفسه وفي الساعة 20:29 تظهر أربع وثائق أخرى في منشور واحد على قناة تلغرام روسيّة باسم Donbass Devushka أي فتاة الدونباس، وهي جميعها مختلفة عن تلك المنشورة في المنتدى 4chan. وفي الساعة 21:49 تظهر وثيقة خامسة في منشور آخر، هذه الوثيقة الأخيرة تشبه وثيقة منشورة في المنتدى 4chan (انظر الأشكال (3 و4)).
يبدو بوضوح أنه تمّ التلاعب بالوثيقة الخامسة، فهي غير واضحة مقارنة مع تلك المنشورة في المنتدى كما أنه جرى تعديل على أحجام الخسائر؛ ففي المنتدى الخسائر الروسية أعلى، وفي قناة فتاة الدونباس بالعكس.
(انظر الأشكال (5 و 6)).
هناك فارق 80 دقيقة بين نشر الوثائق الأربع الأولى والوثيقة التي تمّ تعديلها، وهو وقت كافٍ لإجراء التعديلات اللازمة عليها.
المفارقة أنني استطعت رؤية هذه الوثائق بأم عيني عن طريق الرابطين:
https://t.me/DonbassDevushka/52857
https://t.me/DonbassDevushka/52863
إلا أنه قبل أن أتمكّن من القيام بتصوير الشاشة Screenshot وأثناء تفحُّصي لهذه القناة تم حذف هذه المنشورات، إلا أنني تمكنت من تصوير شاشة المنشور 52863، ولكن تم حذف نص المنشور (انظر الشكل (4)).
أما صورة المنشور 52857 فلقد حصلت عليها من أحد المواقع الإلكترونية (انظر الشكل (4)).
والآن لو دخلنا عبر الروابط السابقة فإنه ستظهر لنا قناة أخرى، تم إنشاؤها بتاريخ 10 نيسان، فيها صور حيوانات (انظر الشكل (7)).
أما قناة فتاة الدونباس فما زالت موجودةً ولكن رابطها على الشكل:
https://t.me/DDMultipolar
ولكن هذه الوثائق محذوفة منها. بل تمت كتابة منشور مستقل نصه: بلّغوا عن هذه القناة، من فضلكم، فهي تُقلِّدنا. (انظر الشكل (8)).
منذ نهاية يوم 5 نيسان وحتى مساء يوم 7 نيسان، بدأت العديد من مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات التلغرام الروسية بتناقل هذه الوثائق بكثافة.
على المنتدى 4chan، بتاريخ 6 نيسان، في تمام الساعة 00:28:34 (أي بعد 4 ساعات من ظهور هذه الوثائق لأول مرة على ذلك المنتدى) ظهر منشور لمستخدم يحمل الرمز qeUAg5mR (سنسميه اختصاراً المستخدم كيو) يتحدث فيها عن الوثيقة المُعدّلة والمنشورة على قناة فتاة الدونباس، يقول في ذلك المنشور:
“من الواضح أن وثائقي سببت هستيريا في (مجتمع الزيك) وبعضهم ذهب إلى تعديلها بزيادة الخسائر الأوكرانية وتقليل الخسائر الروسية”
انظر الشكل (9)
(زيك) هي كلمة دارجة تستخدم للإشارة إلى مقاتلي الشركة الأمنية الخاصة (فاغنر)، بعضهم يعيد أصلها إلى كلمة (زاكلوتشني) والتي تعني السجين أو المحكوم، وبعضهم يعيد أصلها إلى كلمة (زيكيم) العبرية والتي تعني القيود أو السلاسل. وبغضّ النّظر عن الأصل، فإنّ كلماتٍ مثل: زيك، زيكي، زيكا، زيتشكا زيكوفسكي … وما شابه، تعني مقاتلي شركة فاغنر. وبالتالي (مجتمع الزيك) هو الفئة التي تؤيد فاغنر أو تؤيد العملية العسكرية الروسية الخاصة.
يبدو بوضوح أنّ الحسابين (كيو) و (سي) يعودان إلى الشخص نفسه، لأنه كان يتابع الموضوع خلال الساعات الأولى لشيوع الخبر.
كما ذكرت أعلاه، بدأت العديد من المواقع الروسية بتناقل هذه الوثائق بكثافة من نهاية يوم 5 نيسان وحتى مساء يوم 7 نيسان. بدأت وسائل إعلام أمريكية كبيرة بالحديث عن الموضوع، أهمها:
The New York Times, WSJ, Reuters
بتحليل كودات صفحات تلك الصحف يمكننا الحصول على تواريخ وأوقات تحرير الصفحات ونشر المحتويات عليها (انظر الجدول (1)).
بتحليل كودات صفحات تلك الصحف يمكننا الحصول على تواريخ وأوقات تحرير الصفحات ونشر المحتويات عليها (انظر الجدول (1)).
اعتماداً على هذه المعطيات سنجد أنّ أول من نشر عن الموضوع هي صحيفة نيويورك تايمز وبعد أربع ساعات ونصف كتبت وول ستريت جورنال عن الموضوع وبعدها بدقائق ظهرت مقالة في رويترز عن الموضوع.
اللافت في هذه المعطيات أن أول من أنشأ صفحةً للحديث عن هذا الموضوع هو وكالة رويترز وهي آخر من نشر هذه المقالة.
انطلاقاً من أزمنة تحرير الصفحات من الصعب الإجابة على السؤال:
أي هذه الصحف التقط هذه الوثائق أولاً؟
ولكن التواصل مع بعض العاملين في هذه المؤسسات لمعرفة منهجية العمل من الداخل قد يساعدنا في الإجابة على هذا السؤال.
ما يثير الانتباه أن صحيفة نيويورك تايمز، وهي أول من كتب عن هذه القضية، قالت: أحد المحللين أخبرهم بأن ما ظهر من وثائق هو غيض من فيض. إلا أنها لم تذكر اسم هذا المحلل!
هذه العبارة ذاتها كرّرها كاتب مقالة بيلينغ كات المدعو (آريك تولر) إلا أنه أحالها إلى المستخدم فاخي ومستخدمين آخرين لم يذكر أسماءهم.
بالعودة إلى منشورات تولر على تويتر والتدقيق في تواريخها وأزمنة نشرها نجد بوضوح أنه بدأ الكتابة عن الموضوع في التوقيت ذاته الذي بدأت فيه هذه المؤسسات الإعلامية الاهتمام به، إلّا أنّ عبارته (غيض من فيض) لم ترد في منشوراته على تويتر، بل وردت في مقالته المنشورة في التاسع من نيسان على موقع بيلينغ كات.
لذلك تبرز الأسئلة:
أي المصادر تلقّى المعلومات من الآخر؟
وما هي علاقة تولر وموقع بيلينغ كات بهذه المؤسسات الإعلامية؟
بعد شيوع الخبر في الصحف الأمريكية، بدأت تتحدث عنه وسائل الإعلام كلها في العالم.
في الحقيقية، محاولة معالجة الموضوع انطلاقاً من دراسة الوثائق نفسها أصبح عسيراً للغاية؛ فلقد تم حذفها من مصدرها الأصلي، أي المنصة الاجتماعية ديسكورد، ولم يبق سوى بعض صور الشاشة screenshot لهذه الوثائق من حساب المستخدم لوقا، والتي نشرتها بعض وسائل التواصل الاجتماعي (انظر الأشكال (9-12)).
لذلك فمضمون هذه الوثائق ودرجة حساسية المعلومات الموجودة فيها لا يعلمها سوى تلك الصحف والمواقع التي تمكّنت من الحصول عليها، فهي مصدرنا الوحيد الآن!
المفارقة، كأنّ من قام بنشر هذه الوثائق يعيش في كوكب آخر ولم يسمع بهذه الضجة الإعلامية حول الموضوع، لأنه لو كان مهتماً بنشرها وإيصالها إلى الناس لوجد حيلة أخرى أو موقعاً آخر وقام بنشرها من جديد.
ومع ذلك، لا بد من البحث عن إجابة دقيقة على الأسئلة الآتية:
1-كيف حصلت فتاة الدونباس على هذه الصور:
1-1-هل (فتاة الدونباس) ومستخدم منتدى 4chan حصلا سويةً على هذه الوثائق من المنصة الاجتماعية ديسكورد؟
1-2-أم أن فتاة الدونباس حصلت عليها من المنتدى بعد حصول الأخير عليها من ديسكورد؟
2-لماذا تلاعبت فتاة الدونباس بالوثيقة الخامسة وعدّلت خسائر الجيش الروسي؟
3-لماذا تناقلت قنوات التلغرام الروسية بكثافة هذه الوثائق؟
4-لماذا قامت فتاة الدونباس بتغيير اسم القناة وحذف الصور؟
على هذه الأسئلة لا يوجد سوى التكهنات والآراء التي تعتمد بشكل أساسي على خبرتنا المتراكمة في العمل مع الوثائق المنشورة على شبكة الإنترنت. وقد ترجح بعض الإجابات عندنا في ضوء الدراسة اللاحقة للموضوع.
لذلك سنحاول الآن مقاربة الموضوع من زواية أخرى!
أكثر ما يثير الفضول في هذه المسألة هو الاهتمام الإعلامي الأمريكي الواسع بالموضوع، لذلك سنقوم برسم شجرة السيناريوهات المحتملة بهدف ترجيح هذا الخيار أو ذاك (انظر الشكل (15)).
أولاً-مجموعة من الوثائق السرية التي تحوي معلومات صحيحة وشديدة الحساسية، موجودة على موقع ديسكورد منذ أكثر من شهر!
-لم تكتشفها أي جهة استخباراتيّة في العالم، بل إنها وصلت إلى الإعلام قبل وصول أجهزة المخابرات إليها!
هل يصدق أحد هذه الكذبة الكبيرة؟
بالطبع الأمر وارد ولكنه ضعيف الاحتمال!
-سرّبتها روسيا، وفق الرواية الأمريكية.
بالطبع اتّهام روسيا بالموضوع من المسلمات، فهي تخوض حرباً شرسة مع دول الناتو على الأرض الأوكرانية، وبالتالي قد يكون لها مصلحة ما بتسريب هذه الوثائق.
1-أي أنه يوجد عند روسيا وثائق شديدة الحساسية، وقامت بنشرها على الشبكة لكي يطّلع عليها الجميع!
هذا مستبعد تماماً!
2-تهدف بذلك إلى إرباك الخصوم.
هذه الوثائق موجودة على الشبكة منذ مدة، وكان من الممكن أن تقع في يد أي شخص، وبالتالي تنتفي الفائدة منها إن كانت صحيحة.
من الصعب تقدير أيهما أكثر فائدة بالنسبة لروسيا:
آ-إرباك الخصوم – لو كانت الغاية هي إرباك الخصوم لقامت بالإيعاز إلى وسائلها الإعلامية بالترويج بكثافة لهذه الوثائق من لحظة وضعها على سيرفرات ديسكورد
أم
ب-الوثائق نفسها – هذا يعيدنا إلى الخيار الأول.
3-سربتها روسيا لأنها قديمة ولكنها صحيحة
لو كانت صحيحة بغضّ النظر عن كونها قديمة أو لا، لوصلت إليها أجهزة المخابرات وحذفتها من النت دون ضجة إعلامية.
ثم ما فائدة سحبها من النت، فهي بالتأكيد ما زالت موجودة عند من نشرها ويمكنه نشرها مرة أخرى؟
-سرّبتها أوكرانيا
آ-ابتزاز الغرب الذي بدأ يتراخى في تقديم المساعدات العسكرية
هل ستتجرأ أوكرانيا على فعل ذلك؟
ولو تجرأت على فعل ذلك فستكون نهايتها بالتأكيد
ب-تضليل روسيا
من الصعب تضليل روسيا، فالمعلومات تأتي عبر قنوات خاصة
ج-إرباك الشارع الروسي
معظم الشعب الروسي لا يتابع ما يحدث في أوكرانيا
-سربتها جهة ثالثة لمصلحة ما
أي أنه يوجد في أجهزة الاستخبارات المعنية من هو قادر على الوصول إلى هكذا وثائق!
لو كان الأمر كذلك، لكان من الحكمة والمنطق حذفها بهدوء دون ضجة إعلامية، لمعرفة الجاني؛ فبعد هذه الضجة الإعلامية سيختبئ الجاني بشكل جيد!
بناءً على هذه المحاكمة أعتقد أنّ هذه الوثائقَ مزورة، وبالتالي لا أهمية لها على الإطلاق.
قد يقول قائل: شبكة الإنترنت مليئة بالوثائق والصور والفيديوهات المفبركة والمزوّرة، فالتضليل الإعلامي والحرب الإعلامية وبث الشائعات هي جزء من المعركة، تهدف إلى التأثير على معنويات الخصم وحالته النفسية ودفع بعض الأفراد إلى اتخاذ قرارات غير صحيحة، لا تصبّ في مصلحة الدولة التي ينتمي إليها.
فما أهمية الحديث عن الموضوع الآن؟
الحقيقة، الغاية هي إحداث ضجة إعلامية كبيرة حول الموضوع، فهذه الوثائق كانت موجودة على سيرفرات ديسكورد منذ أشهر ولم يلتفت إليها أحد، وبرزت الحاجة إلى هذه الوثائق لسبب ما.
الأطراف الأوكرانية والأمريكية سارعت إلى اتهام روسيا بتسريب الوثائق لإبعاد الشّبهة عنها؛ إلا أنّ روسيا هي اللاعب الأساسي في هذا الصراع، لذلك فهي معنيّة بكل ما يحدث في هذا الميدان؛ وبالتالي اتهامها من البديهيات، إلا أن روسيا في نفس الوقت لن تقوم بخطوة غبية أو عديمة الفائدة.
لذلك، فالسبب يجب أن يكون مرتبطاً بأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية، أو بالأحرى بأقطاب الدولة العميقة في واشنطن.
وفق فهمي للحالة الأوكرانية، فإن الموضوع مرتبط بشبكات الفساد التي تشكّلت على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية؛ إذ يتشارك في صناعة منظومات الفساد هذه مجموعة كبيرة من الشخصيات الأوكرانية والغربية، بعضها يتبوَّأ مناصبَ رسميةً كبيرة، فحجم الأموال التي يتم تقديمها إلى أوكرانيا كبير جداً.
ويمكنني أن أدعم هذا الاستنتاج بحجّتين:
1-في مساء يوم الرابع من نيسان، أي قبل يوم واحد من بروز أزمة الوثائق المسرّبة، ظهرت مقالة في صحيفة نيويورك بوست (انظر الشكل (16)).
تتحدث عن أن الرئيس بايدن وابنه هانتر يحتفظان بوثائق سريّة في أماكن إقامتهما، تعود هذه الوثائق إلى الفترة التي كان فيها نائباً للرئيس في عهد أوباما بين العامين 2009 و2017.
كما أن هذه الوثائق تم الاحتفاظ بها بشكل غير آمن، ضمن خزانات غير مقفلة جيداً، إذ يتمكّن جميع من يقصد المكان الوصول إليها.
جيمس كومر، رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب، نفسه قال: إن كاتيا تشونغ، المساعدة السابقة لبايدن، قدمت معلومات مذهلة، تقوّض رواية بايدن حول الموضوع.
في الواقع، تتفاعل قضية الوثائق هذه في الإعلام الأمريكي منذ نوفمبر الماضي، ويشير كومر استناداً إلى شهادة مساعدة بايدن نفسها بأن الموضوع لم يبدأ في نوفمبر كما ادّعى بايدن، بل قبل ذلك بأشهر.
في نهاية هذا المقال هناك إشارة سريعة إلى أن ابن بايدن متّهم بالعديد من التّهم مثل: التهرب من الضرائب، غسيل أموال، الانضمام إلى لوبيات أجنبية.
2-في مساء السابع من نيسان، وقبل ساعات فقط من ظهور تلك المقالات التي تتحدث عن وثائق سرية مسربة على مواقع (نيويورك تايمز) و (وول ستريت) و(رويترز)، أذاعت قناة فوكس نيوز الأمريكية خبراً بأن جيمس كومر، رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب، طلب بياناتٍ بالحسابات المصرفية لأفراد عائلة بايدن من كبرى البنوك الأمريكية، وكذلك بياناتٍ بحسابات شريك هانتر بايدن يان ميرفين (انظر الشكل (17)).
أهم هذه البنوك:
Bank of America, Cathay Bank, JPMorgan Chase, HSBC USA N.A
تؤكد العديد من المصادر الصحفية أن لعائلة بايدن، وتحديداً هانتر، استثمارات سرية في أوكرانيا؛ وهذه الاستثمارات بدأت في أوكرانيا مباشرة بعد انقلاب 2014. الرئيس الأوكراني زيلينسكي يعلم بذلك، لذلك يلجأ في الكثير من الأحيان إلى ابتزاز بايدن بهدف دفع الأخير إلى تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
بناءً على ما سبق، فإننا نعتقد أن الغاية من إثارة هذه الضجة الإعلامية الكبيرة حول الوثائق المزوّرة هو تضليل لجان التحقيق في الولايات المتحدة حول استثمارات عائلة بايدن في أوكرانيا، وشبكات الفساد المرتبطة بهذه الاستثمارات.
حول شبكات الفساد في أوكرانيا، كنت سابقاً قد تكلمت في تحقيق منفصل عن طريقة استغلال أزمة الغاز الافتراضية في أوكرانيا بهدف سرقة أموال المساعدات الغربية، يمكن الرجوع إلى هذه المقالة فهي منشورة على موقع مركزنا.
أما استثمارات عائلة بايدن في أوكرانيا، وشبكات الفساد المرتبطة بها، فهو ملف ثقيل جداً ومتشعب وغني بالتفاصيل، لذلك يتطلب وقتاً كافياً للحديث عنه، ومن الصعب التوسع به في هذه التحقيق المخصص لتسريب الوثائق العسكرية السرية، على أن نعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في تحقيق مستقل.
في هذا التحقيق، حاولت اسقصاء معظم الأسئلة و الاستفسارات المرتبطة بقضية تسريب الوثائق، فإن وُفِّقت في ذلك فهذا هو المُبتغى، وإن قصّرت فإنّ لي بملاحظاتكم و تعليقاتكم و اقتراحاتكم، أعزائي القراء الكرام، عزاءً في استكمال النقص وسد الثغرات و إبراز النقاط التي أهملتها، فلو تبخلوا علينا بها!
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً