بقلم الدكتور محمد عياش*
لا شيء في هذا العالم يمكن اعتباره ثابتاً، وإن غدا بعيداً عن المساءلة والمحاسبة، حتى لو كان وراءه الولايات المتحدة الأمريكية التي تصارع ثُلثَي العالم تقريباً للحفاظ على هيبتها وجبروتها. واشنطن تتمسك بالقرارات الدولية إذا كانت لها يدٌ في إصدارها كمذكرة التوقيف بحق الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)؛ أما فيما يتعلق بمحاسبة الكيان الصهيوني، فهي ترى أنه فوق الجميع وفوق القانون الدولي، بل وزادت الطين بلّة عندما زوّدته بأعتى أنواع السلاح الفتّاك لقتل الفلسطينيين الأبرياء.
في سابقة هي الأولى من نوعها «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي هولندا، لارتكابها مجازرَ جماعيةً ترقى لجريمة الإبادة الجماعية، وجهة الادّعاء ليست من الدول الإسلامية أو العربية، بل هي جنوب إفريقيا (مانديلا) وما تحمله من إرث الاستعمار الغربي البغيض من ظلم وتوحش وتمييز عنصري مقيت، ومحاولة الغرب تثبيت أقليّة من البيض أصلهم من بريطانيا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية على أغلبية ساحقة من السكان الأصليين مستغلين فقرهم وعوزهم، تماماً مثل العدو الصهيوني الذي يمثل شرذمة من شذاذ الآفاق ولصوصها وفرضهم بقانون القوة على الدول العربية.
القاسم المشترك بين جنوب إفريقيا وفلسطين هو بداية المحنة، إذ بدأت فئات من المرابين البيض بفرض أنفسهم في نفس العام الذي بدأت فيه نكبة فلسطين1948 والطرفان أعجبوا بالمجازر والإبادة لسكان الأرض الأصليين ظنّاً منهم وبهذه الطريقة يستطيعون أن يثبتوا أقدامهم، وبالتالي تُقرّ الشعوب التي ترزح تحت نير احتلالهم بالأمر الواقع.
يقول رمز جنوب إفريقيا الرئيس الراحل (نيلسون مانديلا)، لا يمكن أن تكتمل الحرية لبلادنا إذا ما تحققت لفلسطين. لأنه يعلم بأن الفكر والمنشأ واحد، فالصهاينة تربّوا في البيئة الغربية؛ لذلك بقاء إسرائيل جاثمة على شبر من فلسطين يعني بقاء الامبريالية والاستراتيجية الكولونيالية الغربية التي ترى في إسرائيل استثماراً وكنزاً حقيقياً لها، ووصفةً سحريةً لتدخلاتهم بمنطقة الشرق الأوسط.
الصفعة التي تلقّتها «إسرائيل» من جنوب إفريقيا أفقدتها توازنها، لأن من شأنها أن تشجع الكثير من الدول الموقعة على محاسبتها، وهذا أمر-حتى قبل رفع الدعوى- كان من المحرمات، وما زاد قلق الكيان المعلومات التي بحوزة جنوب إفريقيا منذ قيام الكيان على أرض فلسطين، في حين تتمسك دولة الاحتلال بالهجوم الشجاع في السابع من أكتوبر تشرين الأول من العام الماضي.
الجلبة التي يبدو عليها وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية (أنطوني بلينكن)، ومحاولته ثني إسرائيل عن المضي قُدماً بسياستها المنهجية في قطاع غزة باءت بالفشل، لأن رئيس العدو الصهيوني (بنيامين نتنياهو) يدرك تماماً ما معنى وقف إطلاق النار، ويعلم يقيناً بأن فشله في تحقيق أهدافه المعلنة، وهنا لا يعنيني ما هو مصير نتنياهو، بل أذهب بعيداً بالنظر لمستقبل المقاومة لاسيما أنّ الحديث عن حل الدولتين أصبح أكثر تداولاً من واشنطن حتى أصغر دولة في العالم.
إنّ محاسبة إسرائيل وجرّها إلى المحاكم الدولية خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن العالم أصبح أكثر تفهّما من ذي قبل لحساسية القضية الفلسطينية، وهناك الكثير من التصريحات الاستهجانية التي صدرت من رؤساء حكومات ومؤسسات غربية ومسؤولين وحتى أعضاء في الحزب الجمهوري الأمريكي ومعارضته تقديم السلاح للكيان الصهيوني.
نتنياهو قال إنّ «إسرائيل» تحارب على سبع جبهات قبل الدعوة التي قدمتها جنوب إفريقيا. وأعتقد جازماً بأنه وكيانه المركب الذي أقيم بقرار أممي متحيّز سيواجه جبهات كثيرة، لا أستبق الأحداث فقط ننتظر نتائج التحقيقات وقراراتها، كل الشكر لدولة جنوب إفريقيا ولزعيمها الراحل الذي أسس دولة ذات سيادة ولها سمعة بين دول العالم، والتي تجرأت على محاسبة الكيان الصهيوني لأنها أكثر الدول التي ذاقت مرّ الاحتلال والتمييز العنصري وبالتالي لديها الحساسية المطلقة والإحساس بالمسؤولية الكاملة تجاه الشعب العربي الفلسطيني الذي بدوره ساند ودعم قضية جنوب إفريقيا على عكس الكيان الصهيوني الذي أيّد ودعم دولة الأبارتايد العنصرية..
ولن يهنأ مانديلا في قبره حتى تعود فلسطين من النهر إلى البحر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً