بقلم الدكتور آصف ملحم*
مع اقتراب فصل الشتاء، عادت روسيا وأوكرانيا إلى شن هجمات واسعة النطاق على البنى التحتية الطاقية في كل منهما. المعادلة هنا بسيطة للغاية: في ظروف درجات الحرارة المنخفضة، فإن أي ضرر يلحق بمنظومات الطاقة سيؤدي إلى كارثة مجتمعية.
إن الحمل الزائد على شبكات الطاقة أو النقص في قدرة التوليد يشبه سقوط قنبلة؛ لأنه سيترك مرافق البنية التحتية العسكرية دون طاقة: من قاعدة بيانات الكمبيوتر الخاصة بمكاتب التسجيل والتجنيد العسكري إلى مصانع إصلاح الدبابات. أي إن الشتاء هو أفضل وقت لإلحاق أضرار استراتيجية بالخطوط الخلفية للعدو. وبالطبع، بدأت هذه العملية بالفعل.
في ليلة 25 نوفمبر، شنّت روسيا ضربة واسعة النطاق باستخدام المسيرات من نوع شاهد على الأراضي الأوكرانية. كانت معظم الضربات في كييف وضواحيها.
ذكر الجانب الأوكراني أن الغارة كانت الأكثر ضخامة من حيث عدد الطائرات دون طيار: 75 قطعة. كالعادة أفاد الجيش الأوكراني أنه أسقط كل ما أطلقته روسيا تقريبًا – 71 طائرة دون طيار. هذا القصف أدى إلى انقطاع الكهرباء عن 77 مبنى سكنيًا و120 مؤسسة.
حاولت أوكرانيا أن تردّ بنفس الطريقة؛ ففي ليلة الأحد 26 تشرين الثاني (نوفمبر)، تم أيضًا إطلاق عدد كبير من الطائرات دون طيار. تم تحييد هذه الطائرات في مقاطعات كالوغا وسمالينسك وبريانسك. اصطدمت إحدى الطائرات بمبنى شاهق في مدينة تولا، وتم إسقاط خمس طائرات منها في ريف موسكو، و بعضها الآخر في شبه جزيرة القرم.
يبدو بوضوح في الأشهر الأربعة المقبلة ستستمر هذه العمليات. روسيا مستعدة جيدًا لمواجهة جوية شتوية. إذ قامت موسكو بتوطين صناعة الطائرات دون طيار الإيرانية (شاهد 131 وشاهد 136)؛ إذ تم بناء مصنع ضخم في مدينة يلابوغا في جمهورية تترستان، وبدأت منتجاته في الوصول إلى الجبهة في أوائل أغسطس. ومنذ ذلك الحين نما الإنتاج بشكل مطّرد.
بالرغم من أن انتاج هذا المصنع من الأسرار العسكرية، إلا أن المخابرات الأمريكية أفادت أن الخطة كانت على النحو التالي:
-في المرحلة الأولى، من يناير إلى يونيو 2023، تم استخدام قطع تبديل إيرانية الصنع. سرعة الإنتاج 100 طائرةٍ شهريًا، فبلغ الحجم الإجمالي 600 طائرة دون طيار.
-في المرحلة الثانية، التي بدأت في أبريل وتستمر حتى نهاية العام، بدأ المصنع بإنتاج طائرات دون طيار باستخدام مكونات و قطع تبديل روسية و إيرانية. في هذه المرحلة ارتفعت سرعة الإنتاج إلى 170-180 طائرة شهرياً، و بلغ الحجم الإجمالي 1330 دروناً.
-تبدأ المرحلة الثالثة في يناير 2024. وستتحول روسيا بالكامل إلى مكوناتها الخاصة، وستزداد سرعة الإنتاج إلى 220 مُسيّرة شهريًا. ومن المخطط أن يتم إنتاج 6000 مُسيّرة بحلول سبتمبر.
لا يوجد عند روسيا مسيرات فحسب، بل يوجد صواريخ متعددة الأنواع، و ستستخدمها بالتأكيد في قصف البنى التحتية الطاقية الأوكرانية.
قبل بضعة أيام، أفاد المتحدث باسم القوات الجوية الأوكرانية، يوري إيغنات، أنه وفقًا لتقديراتهم، تمتلك روسيا ترسانة مكونة من 900 صاروخ طويل المدى و عالي الدقة. و أكد أيضاً أن المجمع الصناعي العسكري الروسي قادر على انتاج 100 صاروخ شهريًا. بالتأكيد يحصل الأوكرانيون على هذه المعلومات من الأميركيين والبريطانيين.
يعلم كل الخبراء العسكريين أن المسيرات هي سلاح رخيص لا يُؤسف عليه، ويمكن استخدامها لقصف أي منشأة مشبوهة، لكن الصواريخ هي وسيلة عالية التدمير ويمكن استخدامها لتدمير أهداف حيوية و حساسة مهما بلغت درجة حمايتها.
بالرغم من أن المجمع الصناعي العسكري الروسي لم يعلق على هذه المعطيات الأمريكية، إلا أن الثابت في الأمر أن الاستخبارات الغربية تعلم أشياء عن روسيا و هناك أشياء تجهلها، لذلك فمن المرجح أن الانتاج الحقيقي أكبر من ذلك بكثير.
يبدو أن عمليات القصف الروسي أنتجت حالة من الإرباك و التوتر في أوكرانيا، فخلافاً لكل التوقعات، أخفق الجانب الأوكراني في أمرين حيويين و هامين:
1-إعادة بناء النظام الطاقي:
ففي 23 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي قبل يوم واحد من الغارة الكبيرة التي قامت بها روسيا، قال مدير المركز الأوكراني لأبحاث الطاقة، ألكسندر خارتشينكو: “إن أوكرانيا سوف تضطر إلى اللجوء إلى قطع التيار الكهربائي بشكل متتابع. ووفقاً له، ستستخدم السلطات هذا الإجراء في الأيام التي تنخفض فيها درجة حرارة الهواء إلى أقل من ثماني درجات تحت الصفر.
ما حدث هو أن أوكرانيا، على الرغم من الخطط الكبيرة والتصريحات الصاخبة، فشلت ليس فقط في الهجوم المضاد في الصيف، بل وأيضاً في إعادة بناء محطات الطاقة الحرارية التي دمرتها روسيا سابقاً.
في الواقع، النظام الطاقي الأوكراني مصمم لتغذية دولة متقدمة صناعياً و عدد سكانها 50 مليون نسمة. حاليًا، يوجد في أوكرانيا ما بين 28 و34 مليون شخص فقط. صمدت أوكرانيا وقتها بفضل استخدام قدرات احتياطية لم تُستخدم من قبل، كما أنه تم إيقاف الانتاج الصناعي بالكامل. هذا المورد الاحتياطي وصل إلى نهايته الآن؛ فلقد تدهور نظام توزيع وتحويل الطاقة. و لكن يمكن لبعض المحطات الفرعية أن تعمل فقط لنقل الطاقة، وليس لتحويلها وتوزيعها على المستهلكين. لذلك ستكون أوكرانيا في حالة صعبة للغاية مع أعمال القصف الجديد بالمسيرات و الصواريخ.
2-صناعة نظير للمسيرات شاهد:
لم تتمكن أوكرانيا من إنشاء مصانع قادرة على إنتاج هذا النوع من الطائرات على الرغم من أن الأوكرانيين كان لديهم كل ما هو ضروري لذلك، بما في ذلك الطائرات دون طيار التي تم الاستيلاء عليها، والتي سقطت دون أن تنفجر، فقد تم تفكيكها ودراستها بعناية. كما أن الأوكرانيين يستطيعون شراء كا ما يلزمهم من القطع الإلكترونية والمحركات الغربية اللازمة. و السؤال عن الأسباب وجيه للغاية، و يتعين الإجابة عليه في المستقبل!
حاليًا، العمود الفقري الرئيس للقوات المسلحة الأوكرانية هو المسيرة الصينية Mugin 5 Pro، القادرة على حمل ما يصل إلى 20 كجم من المتفجرات، إلا أن أداءها أسوأ بكثير من شاهد.
ستتمحور المهمة الرئيسية للقوات المسلحة الروسية على إضعاف العمق الأوكراني، الأمر الذي سيؤدي إلى خفض المساعدة التي يقدمها للقوات المسلحة الأوكرانية على الجبهة و إرهاق المجتمع الأوكراني بأكمله من الحرب.
لذلك سيتم التركيز على:
-قصف السكك الحديدية لوقف توريد الذخيرة والمواد الغذائية والملابس الشتوية.
-تدمير محطات الطاقة و التحويل الفرعية.
-قصف منشآت احتياطية للوقود ومواد التشحيم لقاطرات الديزل والنقل البري.
بالتأكيد، سيتمكن الجانب الأوكراني من إصلاح ما يتم قصفه، و لكن مع الضربات المتكررة سيتم تدمير ما تم إصلاحه وترميمه. لذلك فإن هذه الحملة الجوية ستستمر حتى شهر مارس، الأمر الذي سيسبب إرهاقًا كبيراً بين الناس في العمق و بين الجنود في المقدمة. فإذا تم القضاء على إمدادات الطاقة الكهربائية، فسيتم إبطاء عمل الجزء الخلفي، وستنخفض فعالية جميع العمليات العسكرية بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن تدمير البنية التحتية الطاقية في فصل الشتاء هو وسيلة غير إنسانية، و سوف تستخدم أوكرانيا هذه الأطروحة لتشويه سمعة روسيا. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن تدمير البنية التحتية الطاقية دفعة واحدة أفضل من تدمير عشرات الآلاف من المنشآت الصناعية. فهذه الاستراتيجية في نهاية المطاف تقلل من حجم الدمار و الأضرار المادية المرافقة.
سيؤدي تدمير البنى الطاقية إلى إبطاء في عمليات الاستدعاء و التجنيد وعمل شعب التجنيد، و هذا يعني تقليل عدد الجنود الأوكرانيين المعبئين في الجبهات، و الذين سينتظرهم الموت المحتم.
كما أن قوة أي جيش في خطوطه الخلفية، لذلك لا بد من الإسراع في كسر إرادة القيادة الأوكرانية وإنهاء الحرب، فكلما اقتربت نهاية الحرب كلما قلّ حجم الخسائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً