بقلم الدكتور آصف ملحم*
يتّفق معظم الباحثين على أنّ النظام الدولي، أو بشكل أوضح الجملة السياسية التي تشمل العالم كله، هو إطار فوضوي غير هرمي تتوزع ضمنه جمل (دول)، وهذه الجمل هي وحدات متشابهة وظيفياً. تتبادل الوحدات التأثير فيما بينها استناداً إلى قانون التآثرات interactions، أي التأثير والتأثير المتبادل أو مبدأ الفعل وردّ الفعل أو الحاجة والاستجابة، وفي الحقيقة لا توجد آلية أخرى لتشكّل العلاقات الدولية.
وهكذا، تنشأ حالة من التنافس بين الدول، نتيجةً للاختلاف في الدوافع والتصورات والأهداف والتطلعات والموارد والإمكانات، وقد يتطوّر هذا التنافس ليصلَ حدَّ الصراع، أي المواجهة المباشرة والالتحام، أو في أسوأ الحالات الحرب.
تقوم الدولة على مجموعتين من الأسس:
المجموعة الأولى – أسس معنويّة
يمكن ترتيبها حسب تزايد سرعة تأثيرها وتناقص شدة التأثير كما يلي:
1- فلسفيّة: في هذا المستوى تتم صياغة نظرة الإنسان إلى الحياة والوجود والكون وإلى القيم العليا للجنس البشري، فهذه القيم تشكّلت عبر عصور مديدة من التطور والخبرة الإنسانية.
2- تاريخيّة: في هذا المستوى يمكن رؤية المُتَّجه العام لتطور الإنسان، فإرث الشعوب يحدّد منحى تطورها اللاحق، فالنّظر إلى الوقائع التاريخيّة يساهم في تحديد وعي الإنسان.
3- وقائعيّة: ترتبط بفهم حوادث الواقع، وهنا يبرز دور التعليم والإعلام في نشر المعارف والعلوم والثقافة والفنون والأديان، وبالتالي تكوين الشخص والمجتمع.
المجموعة الثانية – أسس ماديّة
يمكن ترتيبها أيضاً حسب تزايد سرعة تأثيرها وتناقص شدة التأثير كما يلي:
1- اقتصاديّة: ترتبط بإدارة حركة الأموال والبضائع، أي بمجمل العلاقات الاقتصادية بين الأفراد والدول.
2- صحيّة-جينيّة: وترتبط بالصحة الجسديّة للإنسان، وأثر المخدرات والكحول والتبغ وطرق الهندسة الجينية كأدوات في التأثير على صحة الأجيال القادمة ووعيها ورؤيتها للحياة.
3- عسكريّة: عناصر القوة في هذا المستوى كثيرة، أهمها: الجيوش، الشرطة وقوى الأمن الداخلي، التشكيلات العسكريّة، المجموعات الإرهابيّة والعصابات المسلّحة.
بناءً على ذلك، تشكّل هذه الأسس الستة اتّجاهات للتأثير بين الأطراف الداخلة في حالات التنافس والصراع. فالاتجاهات الخمسة الأولى هي من أساليب الحرب الباردة، أما الأخير فهو من أساليب الحروب الساخنة.
الآن يدور صراع في العالم، سيُفرز لاحقاً نظاماً عالمياً، لا يستطيع أحد أن يتكهّن بطبيعته أو أن يعطي توصيفاً دقيقاً له، ولكن يمكن أن نرسم الملامح العامة لهذا الصراع بناءً على المعطيات والمؤشرات المتوفرة بين أيدينا.
أعتقد أنّ الاستئناس بما قاله رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية سيساعدنا كثيراً في فهم ماهيّة الصراع، إذ كتب (ريتشارد مور) بعد يوم واحد من قيام العملية العسكرية الخاصة في حسابه على تويتر: مع الدمار والمأساة المتصاعدة بألم في أوكرانيا، علينا أن نتذكر القيم والحريات التي حصلنا عليها بشق الأنفس، والتي تميزنا عن بوتين، وهي ليست سوى حقوق الـ LGBT+.
وهكذا، نحن أمام تيّارين أو نزعتين أو جبهتين أو معسكرين:
الأول-تمثّله الليبراليات الغربية، سنسميه اصطلاحاً (الغرب).
الثاني-تقوده بعض الدول الكبرى، كروسيا والصين والهند وإيران والعالم العربي وغيرها من الدول الآسيوية والأفريقية واللاتينية، سنسمّيه اصطلاحاً (الشرق).
يكمن الخلاف بين هذين التّيارين في طريقتي نظرتهما للفرد والمجتمع والعلاقة بينهما.
إذ أن (الفردانية) تصبغ الليبراليات الغربية؛ فالفرد هو نقطة البداية في تحليل جميع الظواهر المجتمعية. ومارغريت تاتشر نفسها عبّرت عن ذلك أفضل تعبير عندما قالت: (لا وجود لهذا الشيء الذي نسميه المجتمع). تدعي الليبراليات الغربية بأن البشرية انتقلت من (مملكة الضرورة) إلى (مملكة الحرية)، وبالتالي فالمُتَّجه الوحيد للتاريخ هو الحركة نحو شكل من أشكال (التناغم أو الانسجام أو التوافق المتين غير المشروط).
أما التيار الثاني فهو يدعو إلى تعزيز مؤسسات المجتمع والقيم المجتمعية التي تشكلت خلال (الطور الفطري الطبيعي) لتطور البشرية، أي في تلك الحقبة التي لم يكن لمنتجات التكنولوجيا تأثير على العلاقات بين أفراد البشرية؛ فالعلاقات الاجتماعية التي تبلورت في تلك الحقبة كانت متناغمة مع الطبيعة، بحركتها البطيئة والمتوازنة.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي متوسط عمر الجيل ومتوسط عمر التكنولوجيا المسيطرة في المجتمع. فالانتقال من جيل إلى جيل يتطلب حوالي 20-25 سنة (من ولادة الأم إلى ولادة الطفل)، وهذه المدة ثابتة في تاريخ البشرية. أما الوقت اللازم للتحول من تكنولوجيا إلى أخرى فكان كبيراً جداً في العصور القديمة ويصل إلى أكثر من ألف سنة. بدأت هذه المدة بالتقلص شيئاً فشيئاً، وفي الفترة ما بين 1917 -1941 تساوت هاتان المدتان. أي تساوت سرعتا تحديث المعلومات في المستويين الجيني (البيولوجي) والاجتماعي (الثقافي). وفي عصرنا الحالي أصبح متوسط زمن تحديث المعلومات في الوسط الثقافي أقلَّ بكثير من متوسط عمر الجيل (حوالي 3-6 سنوات)؛ أي أن الحالة الثقافية والمعرفية تتغير عدة مرات ضمن الجيل الواحد؛ أي أن إيقاع الحركة في الوسط المعرفي أعلى بكثير مقارنة مع الوسط البيولوجي.
وهذا يعني سباكة وإعادة تشكيل الإنسان، الذي هو جوهر الحياة وجوهر المجتمع وجوهر التطور، وتحويله إلى كائن آخر، إلى شكل من أشكال الروبوتات الاجتماعية، والقضاء على أسس الحياة الاجتماعية التي نمت وتطورت وترسخت خلال قرون من التآثر الاجتماعي بين أفراد البشرية!
لذلك نلاحظ أن النمط الغربي للحرية أصبح شكلاً من أشكال الإسراف و الابتذال، تجاوز الحاجة الإنسانية لها كطاقة نفسية-روحية تمكّن الإنسان من تحقيق ذاته وطموحاته؛ ففي الآونة الأخيرة ظهرت أنماط غريبة من الحريات، مثل:
حرية التعبير عن المشاعر، حرية تحسين المزاج، حرية ممارسة الجنس بعد الموت، انتشار مجتمعات الميم والحريات الجندرية، المطالبة بحق الإجهاض حتى عند اقتراب الولادة … الخ.
لذلك لم يكن كلام الرئيس بوتين عبثاً عندما قال، في مقابلته مع صحيفة الفايننشال تايمز، عام 2019 على هامش قمة العشرين في مدينة أوساكا اليابانية: (برأيي، لقد انتهت صلاحية الفكرة الليبرالية، فبعض عناصرها غير واقعية، وهذا يعترف به العديد من شركائنا الغربيين).
على المستوى الاقتصادي، فإن الليبراليات الغربية تعتمد ما يمكن أن نسميه (الاقتصاد المعولم) وهو شكل من أشكال (الاستعمار المالي الجديد)، فعن طريق شركاتها العملاقة العابرة للقوميات أو متعددة الجنسيات تحاول دمج الدول الأخرى ضمن تياراتها الصناعية والمالية. فالكثير من الدول تمتلك موارد وثروات هامة، لكنها لا تقوم باستثمارها، لذلك تتحوّل إلى دول تابعة ومقاولة، أو بشكل أوضح إلى دمىً، بيد أصحاب رؤوس الأموال في الدول الغربية. لذلك نلاحظ دائماً أن الولايات المتحدة تسعى إلى تقسيم الدول الأخرى إلى دول أصغر، فكلما كانت الدولة أصغر كلما سهل التحكم بها.
بناءً على ذلك، فنحن أمام نزعتين مختلفتين:
-نزعة استعمارية استعبادية استغلالية لباقي أفراد البشرية، ممثلوها مستعدون لاستثمار كل شيء لبلوغ مصالحهم السياسية. فالليبرالية الغربية تصالحت مع أكثر الحركات الفكرية تطرفاً، كالصهيونية والنازية والفاشية والإرهاب لبلوغ أهدافها السياسية.
-نزعة إنسانية أخوية، تدعو إلى التكامل والتكافل والتعاون والاندماج بين أفراد البشرية كلها.
لذلك فإن التنافس العالمي سيكون بين هاتين الكتلتين وستتجلى هذه المنافسة على جميع المستويات، وقد تلجأ الليبراليات الغربية إلى إشعال الحروب بهدف السيطرة على موارد الشرق، وعلامات تسخين الصراع بين المعسكرين بدأت تظهر في أكثر من مكان في العالم.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً