بقلم الدكتور آصف ملحم*
لن يجد المتابع للأوضاع في هذا الإقليم صعوبةً في الوصول إلى الاستنتاج بأن حرباً شاملة قد تشتعل في أي لحظة هناك؛ أذربيجان منذ فترة تقوم بحشد القوات بالقرب من الحدود، كما أن العديد من طائرات النقل العسكرية تنقل الأسلحة من إسرائيل وتركيا إلى باكو. بالرغم من أن أذربيجان أعلنت رسمياً بأنها مع تحقيق السلام مع أرمينيا، وهي تنتظر من يريفان اعترافاً مكتوباً بسيادة أذربيجان على كاراباخ.
ما يثير الانتباه أن أذربيجان رسمت على آلياتها العسكرية حرف A مقلوباً، يذكرنا بحرف V الذي صبغت به روسيا مدرعاتها عند دخولها أوكرانيا.
علاوة على ذلك، يتبادل الطرفان الاتهامات باستمرار بخرق اتفاق وقف إطلاق النار بين الفينة و الأخرى. فوزير الخارجية الأذربيجاني (جيحون بايراموف) أعلن بأنهم، في أذربيجان، لاحظوا أفعالاً للقيادة الأرمينية لا تتوافق مع التصريحات الشفهية. كما اتّهم أرمينيا بالقيام باستفزازات على الأرض، وأعلن أيضاً أن أرمينيا تحتفظ بكيانات عسكرية غير قانونية قوامها عشرة آلاف مقاتل في كاراباخ.
الجانب الأذربيجاني أعلن بأن أهداف هذه العملية هي:
-ضمان تنفيذ الاتفاقية الثلاثية.
-إيقاف الاستفزازات في كاراباخ.
-نزع سلاح القوات الأرمينية و إخراجها من الإقليم.
-القضاء على البنى التحتية العسكرية الأرمينية في الإقليم.
-استعادة النظام الدستوري في الإقليم.
-تعزيز أمن السكان العائدين إلى (المناطق المحررة).
لذلك فالهدف الحقيقي للعملية العسكرية هو بسط السيطرة الكاملة على هذا الإقليم، بخلاف بعض الادعاءات الأذربيجانية بأنها عملية (محلية محدودة)؛ و هذا يعني أننا أمام حرب شاملة في المنطقة.
أعلنت أذربيجان بأنها أبلغت الجانب الروسي بعمليتها العسكرية، و أبلغت كذلك مركز المراقبة المشترك الروسي-التركي. لكن روسيا، على لسان المتحدثة باسم الخارجية الروسية نفت ذلك، و أكدت بأن روسيا علمت بالعملية قبل بدئها بدقائق فقط.
بناءً على ذلك، لا بد من الاعتراف بأن تجدّد القتال في تلك المنطقة يعكس ضعف الموقف الروسي في القفقاز؛ فلقد كانت الاتفاقية الثلاثية، التي تم توقيعها بتاريخ 10 تشرين الثاني عام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان برعاية روسية نصراً دبلوماسياً لموسكو، وروسيا الآن ليست في وضع يسمح لها بإرسال قوات حفظ سلام إضافية إلى كاراباخ بسبب العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
في الواقع، لا توجد ظروف ضاغطة على باكو تدفعها للبدء بمعالجة المسألة الكاراباخية بالقوة؛ فالقسم الأكبر من الجمهورية غير المعترف بها يقع تحت سيطرة أذربيجان؛ فالاتفاقية الثلاثية نصّت بوضوح على: البسط التدريجي لنفوذ باكو على الإقليم؛ لذلك فمسألة دخول كامل الإقليم ضمن سيادة أذربيجان هي مسألة وقت فحسب. كما أن رئيس الوزراء الأرميني، نيكولا باشينيان، أعلن في أكثر من مناسبة بأن كاراباخ هذه أرض أذربيجانية و بأنه مستعد لتسوية النزاع على هذا الأساس.
على هذه الخلفية، يجب أن نطرح على السلطات الأذربيجانية، التي تدّعي البراجماتية في العمل السياسي، السؤال التالي:
ما هي الأسباب الحقيقية وراء توتير هذه المنطقة؟
في هذه المنطقة من العالم تتشابك مصالح العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين، كتركيا وخلفها كل الدول الغربية وروسيا وإيران، سنحاول التعريج على دور كل منهم على حدة.
بالنسبة للغرب، أصبح تورّطه واضحاً في أوكرانيا، وآفاق تطوير الصراع هناك أصبحت معدومة تقريباً. وبالرغم من دعوة برلين وواشنطن إلى تقديم صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا، إلا أنّ الخبراءَ العسكريين يعلمون جيداً أن ذلك لن يؤدي إلى تغييرات محسوسة في مسار الصراع. لذلك قد يلجأ الغرب إلى إشعال صراع جديد بالقرب من حدود روسيا لزيادة الضغط عليها.
المفارقة أن باشينيان نفسه يحاول التقرّب من الغرب دائماً، ويبحث عن حجج مستمرة لذلك. فبدعوى (تنويع الأمن) صرّح في مناسبات مختلفة أنه ما كان يجدر بأرمينيا الاعتماد فقط على روسيا في بناء أمنها الاستراتيجي، بحسب تعبيره (تذوّقت أرمينيا مرارة ذلك).
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه هدد بالخروج من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وأرسل زوجته (آنّا آكوبيان) مع مساعدات إنسانية إلى كييف، واعتقل الإعلاميين المؤيّدين لروسيا، وأجرى تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية. و المفوضية الأوروبية بدورها دعت إلى توسيع حلف الناتو و الاتحاد الأوروبي و ضم أرمينيا.
في الواقع، بالرغم من اعتراف باشينيان بأذربيجانيّة كاراباخ؛ فهو غير قادر على إقناع المجتمع الأرميني بضرورة التنازل عن كاراباخ وإنهاء هذا النزاع الذي دام أكثر من 30 سنة من جهة، ولا هو قادر على القيام بأي خطوات عملية في هذا الاتجاه خوفاً من ردّة فعل المجتمع الأرميني من جهة ثانية، الأمر الذي قد تستغله المعارضة الداخلية وتدعو إلى احتجاجات تعارض فكرة التنازل عن الإقليم كلياً.
بناءً على ذلك، أصبح باشينيان في وضع لا يحسد عليه؛ فالتنازل سيؤدي إلى توتر في داخل أرمينيا، كما أن المحافظة على (الستاتسكو) في الإقليم قد يشعل حرباً مع أذربيجان. لذلك بدأ بكيل الاتهامات لروسيا وقواتها في الإقليم، و البحث عن حلول لهذه المعضلة خارج الفضاء الإقليمي لأرمينيا. هذه التصرفات الأرمينيّة أغضبت موسكو، وأدّت إلى تدهور العلاقات بين البلدين.
استغلّت أذربيجان هذا المناخ، واعتقدت بأنها أمام فرصة تاريخية لاستعادة السيطرة على الإقليم؛ لا بل إنها أعلنت بأن هذا هو الطريق الوحيد لإحلال السلام في المنطقة.
وضوحاً، لن يتدخل الغرب عسكرياً لصالح أرمينيا، ولن يقدّم المساعدات العسكرية لها أيضاً. كما أن احتمال أن تقوم الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على أذربيجان ضئيل للغاية، و ذلك للسّببين الآتيين:
1-من الناحية القانونية كاراباخ هي أرض أذربيجانية، لذلك سيبدو الغرب متناقضاً بتطبيق هذا المعيار في أوكرانيا و تجاهله في أذربيجان.
2-سيؤدي فرض أي عقوبات اقتصادية على أذربيجان، كحظر النفط و فصل السويفت، إلى اضطراب كبير في أسواق الطاقة، الأمر الذي سيؤدي إلى تقارب كبير بين باكو و موسكو، و إلى القضاء على كل المشاريع التي يحاول الغرب تطويرها مع أذربيجان. ففي يوليو 2022 زارت أرسولا فون ديرلاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، باكو ووقّعت مذكرة تفاهم للتعاون الطاقي مع أذربيجان.
روسيا بدورها لن تتدخّل؛ لأنّ تدخلها سيؤدي إلى إذكاء نار الصراع، كما أنها ستفسح المجال لباشينيان لكي يدفع ثمن عدم انصاته لنصائح موسكو وتوجّهه نحو الغرب. ولقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير ديميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الامن القومي الروسي.
أما تركيا، فهي معنيّة بالضغط على روسيا لإجبارها على العودة إلى اتفاق الحبوب؛ فتركيا مستفيدة بشكل كبير من هذه الاتفاقية.
لإيران بدورها مصالح في هذه المنطقة أيضاً، خاصة في ظلّ التعاون الأمني الوثيق بين أذربيجان وإسرائيل. فقد قامت بحشد جزءٍ من قوات الحرس الثوري الإيراني بالقرب من الحدود مع أذربيجان.
مواقف هؤلاء اللاعبين قد تتغير مع الزمن، حسب تحولات الصراع هناك!
و هكذا، في ظل غياب حلفاء ليريفان، فإنه لن يتمكن أحد من مساعدة الإقليم سوى أرمينيا، بحشد قواتها و إرسالهم إلى الجبهات. ولكن التدخل العسكري صعب للغاية للسببين الآتيين:
-فقدان مدينة (شوشي) في الحرب الماضية، ففي هذه المنطقة توجد مرتفعات هامة مُطلّة على عاصمة الإقليم (ستيباناكيرت).
-التواصل مقطوع بين الإقليم و أرمينيا بعد إغلاق ممر لاتشينسكي بينهما.
بناءً على ذلك، سيتعرض سكان الإقليم إلى ضغوط شديدة؛ فهم مضطرون للتّخلي عن منازلهم وممتلكاتهم هناك؛ الأمر الذي قد يدفعهم للمواجهة ومقاومة الجيش الأذربيجاني. لذلك فإن دعوى أذربيجان بأنها ستقوم بعملية (محلية محدودة) لـ (بسط سيطرتها على الإقليم) هو، في الواقع، قول متناقض ذاتياً.
فأذربيجان لن تتمكن من تحقيق أهدافها، التي أعلنتها، في بضعة أيام، ولا حتى في بضعة أشهر؛ وإطالة أمد الصراع سيؤدي إلى تدخّل اللاعبين الآخرين في النزاع، بالرغم من التناقضات الكبيرة بينهم.
هناك احتمال آخر، أن تقوم أذربيجان بالتوقف بعد هجوم كاسح للضغط على أرمينيا للرضوخ للشروط الأذربيجانية؛ إلا أن القيادة الأرمينية لن تكون قادرة على ذلك بسبب الضغط الشعبي؛ و المظاهرات التي خرجت هي خير دليل على ذلك.
من التطورات المثيرة للاهتمام، والتي قد تسعى أذربيجان إليها بالتعاون مع تركيا، محاولة فتح ممر سيونيكسكي، الذي يربط الجيب الأذربيجاني ناخيجفان والجزء الأساسي من أذربيجان. سيتيح هذا الممر التواصل البري بين تركيا و أذربيجان (انظر الشكل). هذه الخطوة ستكون تهديداً مباشراً لإيران، التي ستتدخل بالتأكيد لصالح أرمينيا.
ختاماً، من الصعب التنبؤ الآن بالتطورات اللاحقة للصراع في هذه المنطقة، إلا أن الثّابت لدينا هو أن روسيا لن تتخلى عن أرمينيا، بالرغم من سلوك قيادتها، كما أن الثابت أيضاً وجود أطماع تركية في شبه جزيرة القرم من جهة أولى، وفي القفقاز من جهة ثانية، ومن مصلحة الدول الغربية دفع تركيا في صراع مع روسيا من جهة ثالثة. فهل ستجد تركيا و روسيا نفسيهما في مواجهة مباشرة على امتداد جبهة طويلة من وسط أوروبا إلى وسط آسيا؟!
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً