بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
لم تكن تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية حول الحرب الوحشية التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة مفاجئةً لنا، أو صادمةً لمشاعرنا، أو مخالفةً لتوقّعاتنا، فألمانيا لم تتوقف منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم عن دعم الكيان الصهيوني، وتزويده بمختلف أنواع الأسلحة والمعدات، والطائرات والمُسيّرات، والغواصات والآليات، حتى أنها تزوّد الجيش الإسرائيلي بكلاب ضارية مفترسة مدرّبة، كتلك التي يستخدمها جنوده في ترويع الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وتمزيق ملابس الفلسطينيات ونهش أجسادهن والإساءة إليهن، ولقد وثّقت وسائل الإعلام الأجنبية هذه المشاهد المُخزية.
نعم … لم تكن التصريحات الألمانية مفاجئةً لنا أبداً، إذ نعرف تاريخياً استخذاءها الدائم وضعفها المستمر أمام الكيان الصهيوني، الذي ما زال يستغلها ويستنزفها، ويلزمها بدفع تعويضاتٍ مرهقة للحكومة والمواطنين الألمان، تكفيراً عن “المحرقة” التي كان اليهود أنفسهم سبباً فيها، وشركاء في ارتكابها تمهيداً للهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، وما زالت الحكومات الألمانية على اختلافها تخضع للابتزاز الإسرائيلي لا تقاومه ولا تدفعه، ولا تحاول البراءة من المسؤولية والتخلي عنه، ونجدها فضلاً عن التعويضات المالية التي تقدمها له بسخاء، تدافع عنه في الأروقة والهيئات الدولية، وتتفهم مواقفه وتجيز سياساتِه وتدعم قراراتِه.
لكننا كنا نظن أنّ لدى الحكومة الألمانية بعض الحس الإنساني، وقليلاً من الأدب واللباقة، والأخلاق واللياقة، فتتجنب الكلمات الخشنة والأوصاف السيئة، وتكون منصفةً في مواقفها، عادلةً في تقديراتها، ولا تشارك في الحرب الهمجية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني كلّه، إلا أنها بإعلانها التوقف عن مساعدة الفلسطينيين، وقطع الاتصال بهم والتعاون معهم حتى يقوموا بإعادة “الرهائن” الأسرى المحتجزين لديهم، وتتوقف مقاومتهم عن قصف المدن والبلدات والمستوطنات الإسرائيلية.
أضافت الحكومة الألمانية ما يسيء إليها أكثر ويفضح سياستها ويعرّي عنصريتها، سماحها لجيش الاحتلال الإسرائيلي باستخدام مسيراٍتٍ ألمانيةٍ حربيةٍ متطورةٍ في العمليات الحربية التي يشنها على الفلسطينيين، واستعدادها تزويد الجيش الإسرائيلي بذخائرَ ومعدّاتٍ خاصة بالسفن البحرية، وإعلان جاهزية بلادها الدائمة تزويده بما يلزمه خلال الأيام العصيبة التي يعيشها “شعب إسرائيل”، نتيجة “عدوان” حركة حماس عليه.
وفي الوقت نفسه قامت السلطات الألمانية بمنع الفلسطينيين والعرب والمسلمين المقيمين في ألمانيا من التظاهر تنديداً بالعدوان الإسرائيلي، واستنكاراً للصمت الدولي المعيب، وبدلاً من السماح لمواطنين ألمانٍ من أصولٍ فلسطينية وعربية وإسلامية، بالتعبير عن مشاعرهم الإنسانية والقومية، وهذا هو أبسط حقوقهم المكفولة بالقانون والدستور، قامت برفع الأعلام الإسرائيلية وأضاءت بها أكثر من مكانٍ ورمزٍ في الدولة الألمانية، وأظهرت مشاعرها التضامنية مع الإسرائيليين، متمنيةً لهم السلامة وعاجل الإفراج عن الرهائن المحتجزين.
يبدو أن الحكومة الألمانية التي لها العديد من المؤسسات العاملة في قطاع غزة، فضلاً عن سفارتها وقنصليتها في الأرض المحتلة، لا ترى ما يحدث من عدوانٍ إسرائيلي صارخٍ منافٍ لكل القيم والمعايير الدولية والإنسانية، ولا تسمع أن سلطات الاحتلال تحاصر الآن جواً وبراً وبحراً أكثر من مليوني فلسطيني، وتحرمهم من الغذاء والدواء والماء والكهرباء، في أبشع جريمة دولية ترتكبها باسم الدول الأوروبية المتحضرة، وبالسلاح الأمريكي والأوروبي الشريك في العدوان، في أوضح مشهدٍ لمحرقة العصر المروّعة التي يرتكبها مدَّعو المظلومية.
إننا نحن العرب والفلسطينيين والمسلمين، نستنكر المواقف الألمانية، ونعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية البغيضة والكراهية المنبوذة، ونتهمها بأنها تساند الاحتلال الإسرائيلي وتقف إلى جانبه، وأنها تؤيده في عدوانه علينا وتساعده أيضاً، فهي شريكة معه في هذا العدوان، وتتحمل كامل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية والقانونية الدولية، ونطالبها بسرعة التراجع عن مواقفها، ومراجعة سياساتها المنحازة التي تشجع إسرائيل على استمرار جرائمها، مستفيدةً من الغطاء الدولي لها والصمت العربي عنها.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً