بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
لا تنام على الظلم، ولا تقبل بالضّيم، ولا تخضع بالقهر، ولا تستسلم للجور، ولا تخضعها النيران، ولا تخيفها القطعان، ولا تحيلها الحرائق إلى رماد، ولا تعدم وسيلةً للثأر ولا طريقةً للانتقام، لا تعرف اليأس ولا تعترف بالعجز، بل تثور وتغضب، ومن بين الرّكام تنهض، ورغم الجراح تنقضّ، ومن تحت الأنقاض تنتفض، ورغم الآلام وعمق الجراح فإنها تهبّ على أقدامها وتقف ثائرةً، وتقول للعدو أبداً لن نركع ولجيشك لن نخضع، ول (سموت ريتش) لن نتبع ول (بن غفير) لن نسمع.
إنها بلدة حوّارة الثائرة ابنة جبل النار نابلس، الرّابضة في جنوبه، والساكنة في ضلوعه، والحارسة لحدوده، التي ظنّ المستوطنون أنهم قد حرقوها بنار حقدهم، وأحالوها رماداً بسواد نفوسهم، وأنها لن تنهض من جديد، ولن ترفع رأسها من هول ما أصابها، بعد أن قرّر أحد شياطينهم أن يزيلها من الوجود، وأن يشطب اسمها ويجتثّها من الجذور، وشجّع مستوطنيه على اقتحامها وحرق بيوتها، وتحطيم سياراتها وتدمير بيوتها، عقاباً لها ودرساً، وعِبرةً لغيرها وردعاً، ولما كان لهم الخراب الذي أرادوا فرحوا وطربوا، وغنوا ورقصوا، وظنوا أنهم سينامون طويلاً، وسيحلمون كثيراً، ولن ينغّص حياتهم أحد، ولن يكدّر عيشهم مقاوم.
إلا أن حوّارة التي لا تزيد مساحتُها عن عشرة آلاف دونم، ويسكنها أقل من ثمانية آلافِ فلسطينيٍ، قرّرت أن تنتقم من قاتليها، وأن تثأر ممن أساء إليها، وأن تقطع اليد التي امتدت إليها واعتدت عليها، فتوالت عملياتها الانتقامية بأيدي أبنائها حيناً وبأيدي الغيارى عليها والغاضبين من أجلها أحايين أخرى، ونالت من الإسرائيليين وأوجعتهم، وأصابت المستوطنين وآلمتهم، وكوت وعي المحتلين وصدمتهم، وشجّعت الثائرين وحفّزتهم، وحرّضت المقاومين ودفعتهم، وألحقت بالعدو خسائر ما ظن أنه سيدفعها، وقد ظن أنّ مستوطنيه سيكونون بمنأىً عن المقاومة وبمأمنٍ من رجالها.
لكن حوّارة التي تنال من العدو دوماً، رغم كثافة قوات الجيش الإسرائيلي، كونها تقع في قلب تجمّعات استيطانية وعلى الطرق العامة التي يسلكها المستوطنون، أقسمت أن تؤدّب هذا العدو وأن تردعه، وأن تلقّنه درساً بليغاً علّه منه يتعلم وعن غيّه يرجع، فجرّعته من كأس المَنون مَراراً، ونال أبطالها من مستوطنيه كثيراً وألحقوا بهم خسائرَ عديدةً منذ مطلع العام الجاري، وكان آخرها داخل مغسل سيارات على الطريق العام، تمكّن خلالها مقاومٌ فلسطيني من قتل مستوطنَين اثنين بمسدسٍ كان يحمله، وبطلقاتٍ خمس لا أكثر، وفق صور كاميرا المراقبة في المحطة، واعترف جيش العدو أنه وجد المسدس المُستخدَم في العملية قريباً من مكان العملية.
بات عجز جيش العدو وأجهزته الأمنية لا يقتصر فقط على فشله في إحباط العمليات العسكرية ومنع تنفيذها، على الرغم من الكمّ الكبير من الإنذارات ورسائل التحذير التي تصل إليه عبر مختلف الوسائل التقنية الحديثة والبشرية، ودليل عجزه نجاح المقاومة المتكرر في مختلف المناطق الفلسطينية في إحداث خروقٍ أمنية وتنفيذ عملياتٍ عسكرية ناجحة، حيث تذكر إحصائيات جيش العدو أنه يشهد العام الأسوأ منذ العام 2015، حيث قُتِلَ حتى اليوم ستةٌ وثلاثون إسرائيلياً، بعد عملية الخليل التي قتلت فيها مستوطنة.
لكن جديد العجز وأخطره يتمثل في نجاح المقاومين في الانسحاب بأمان بعد تنفيذ عملياتهم، ونجاحهم في الاختباء والتواري عن الأنظار ولو لفترةٍ قصيرةٍ، وهو ما بات يقلق الإسرائيليين ويخيفهم، فقد يقوم المنفّذون بتنفيذ عملياتٍ أخرى خلال مطاردتهم، تماماً كما حدث مع الشهيد عدي التميمي، الذي نجح خلال مطاردته في تنفيذ عمليةٍ ثانية على مدخل مستوطنة معاليه أدوميم، والأمر نفسه يتكرر اليوم بعد عملية حوارة الناجحة، في ظل المخاوف نفسِها من إمكانية نجاح منفّذ العملية في تنفيذ غيرها، وهو أمرٌ بات ممكناً ومحل تفكير وتخطيط المقاومين جميعاً، الذين يؤثرون الشهادة على الأسر، ويفضلون المواجهة والتحدي واستمرار المقاومة حتى آخر طلقةٍ تعمر بنادقهم.
حوارة تنتقم من الإسرائيليين بطريقتها الخاصة، وبأسلوبها المميّز، وفي الأوقات التي تختارها والأماكن التي ينتقيها مقاوموها، فقد اعتاد رجالها على ركوب الخطر وتحدّي الصعاب، فهم يعلمون أن بلدتهم صغيرة، وأن عين العدو عليها، وهو يتربّص بها ويريد أن ينقضّ عليها ويضمّها إلى مستوطناته، أو يشقّ منها طرقاً آمنة لمستوطنيه، الذين يعانون خلال عبورهم الشوارع القريبة منها، ورغم أنها تقع في منطقة ينتشر فيها الجيش الإسرائيلي بكثافةٍ نسبيةٍ، فقد لجأ أبناؤها إلى نصب الكمائن وقنص السيارات العابرة، واستهداف عربات الجيش ودورياته، مما ترك في نفوس المستوطنين أسوأ الأثر، إذ هم يستهدفون ويقتلون في ظل وجود الجيش الذي يدّعي حمايتهم والدفاع عنهم.
لم تأخذ حوّارة ثأرها بعد، ولم يبرد دمها ولم تهدأ عاصفة غضبها، ولم ترضَ عما قدّمت وأبلت، إذ ما زال رماد أحيائها وحطام سياراتها التي أحرقها المستوطنون، والدعوات إلى إبادتها وشطبها، وشهداء شعبهم واقتحام المتطرفين لأقصاهم، وعدوان الجيش الإسرائيلي المتكرر عليهم، يذكّرهم بالثأر والانتقام، ويدفعهم نحو المزيد والجديد، والرد على العدو باللغة التي يفهمها وبالطريقة التي تؤلمه، إذ لا غيرها يوقفه، ولا سواها يردعه، كما قال آباؤهم الأوّلون وقد صدقواُ: “ما بيرد الصاع إلا الصاعين”. – لا يُرَدُّ الصّاعُ إلا بالصّاعين –
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصرا