بقلم الأستاذة الدكتورة هدى رزق*
قد تكون الأزمة الأوكرانية سبباً مباشراً لأزمة الغذاء العالمية في الظروف الراهنة، ولكن الجذور الحقيقية تعود إلى أسباب أخرى، منها تداعيات جائحة «كورونا» وأزمة المناخ والإغلاقات الأخيرة في الصين بسبب الوباء، واختلال التوازنات التنموية بين الدول الغنية والفقيرة، وتعثّر أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة التي بدأت منذ العام 2016، والتي تهدف إلى القضاء على الفقر بجميع أشكاله ومكافحة عدم المساواة والتصدي لظاهرة تغيّر المناخ. كل هذه الأسباب مجتمعةً ساهمت في صناعة هذه الأزمة.
في ظل تعقّد المشهد الدولي لا تخلو أية قضية من التّسييس والتوظيف، وما يجري من جدل هذه الأيام حول نقص الغذاء، بعد أزمة كوفيد وإغلاق واضطراب سلاسل الإمداد الناشئة عنها، يجري تحميل الصراع بين روسيا وأوكرانيا الدور الأكبر في الأزمة للتّمويه على الأسباب الحقيقية، وبالتالي تضليل الرأي العام ولصق هذه الأسباب بالمواجهة المفتوحة بين روسيا والأطراف الغربية حول أوكرانيا، وبالنتيجة إغفال دور العقوبات غير المسبوقة على موسكو. تصاعدت الأزمة فجأةً وأصبحت عنواناً إعلامياً عريضاً؛ إذ ارتفعت أسعار الغذاء حوالي 20% مقارنة مع العام الماضي بسبب ارتفاع أسعار حوامل الطاقة والانقطاعات في تصدير الأسمدة.
أزمة الغذاء العالمية اليوم، في الحقيقة، هي نتاج المنظومة الغربية وعقوباتها المفرطة، التي أسهمت بشكلٍ مباشرٍ في ارتفاع أسعار حوامل الطاقة والأسمدة، بالرغم من انعكاسها سلباً على مستوى معيشة الشعوب الغربية ذاتها. تعتبر العقوبات المسؤول الرئيس عن التّجويع وسوء التغذية المتزايدين، وستتسع الآثار الاقتصادية لارتفاع أسعار الغذاء ونقص المعروض منها، وهذا ما يغيب عن كثيرين اليوم.
عندما ناشدت الدولُ الغربيةُ العالمَ من أجل فتح بوابات صادرات الحبوب والأسمدة عبر البحر الأسود، فعلت ذلك باسم شعوب جنوب الكرة الأرضية وشرقها، وتحت راية التخفيف من (أزمة الغذاء العالمية)، لكنها حوّلت معظم الشحنات الأوكرانية القادمة عبر البحر الأسود إلى الدول الغربية، فكان خطابها حول دول الجنوب تمويهاً للحصول على الغذاء لدولها. وبالرغم من عرض روسيا تسليم المحتجز – في الموانئ الغربية – من الحبوب والأسمدة الروسية مجّاناً للدول النامية استمرت الدول الغربية بفرض العقوبات عليها، ولم تلقَ الدعوات الروسية آذاناً صاغية، والهدف هو ضرب مصداقية روسيا وتحقيق انتصارات معنوية وهمية عليها، خاصةً في دول الجنوب، في أفريقيا ومصر واليمن وسوريا ولبنان.
يجد السوريون والمصريون واللبنانيون واليمنيون والعديد من مواطني الدول العربية الأخرى صعوبة كبيرة في تأمين الخبز؛ فروسيا وأوكرانيا هما أكبر مورّدي القمح بالنسبة لهم. شكّل ملف الأمن الغذائي أولوية قصوى بالنسبة للعديد من الدول؛ حيث يتم التركيز على إمكانية توفير الغذاء عبر الإنتاج المحلي والتخزين الاستراتيجي، مع تأمين مصادر بديلة للاستيراد، والحرص على أن تكون الأساس المتين لتحقيق الأمن الغذائي للشعوب. لم تعد مشكلة العجز الغذائي مجرّد مشكلة اقتصادية زراعية فحسب، بل تعدّت ذلك لتصبح قضية استراتيجية سياسية ترتبط بالأمن القومي والإقليمي، وأصبح الغذاء سلاحاً استراتيجياً في يد الدول المنتجة والمصدرة له، وفي يد فارضي العقوبات، يستخدمونه كأداة ضغط على الدولة المستوردة لتحقيق أهداف سياسية.
تصدرت روسيا قائمة الدول العشر المُصدّرة للقمح إلى مصر خلال الـ 11 شهراً الأولى من عام 2021، وجاءت أوكرانيا في المرتبة الثانية. يعتبر قطاع الزراعة في مصر إحدى الركائز الأساسية للاقتصاد؛ لذلك تهدف استراتيجية الدولة المصرية اليوم إلى توفير السلع الغذائية وتوفير مخزون احتياطي لمدة لا تقل عن 6 أشهر، وزيادة منافذ التوزيع، وتعزيز قدرة مصر على تحمّل الصدمات الخارجية سواء في أثناء فترة جائحة كورونا أو موجة التّضخم ما بعد كورونا، أو حتى ما نشهده اليوم من التداعيات المترتبة على الأزمة الروسية – الأوكرانية. لذلك أصبح تشجيع الزراعة والاهتمام بالقطاع الزراعي وإصلاحه من أولويات السياسات الاقتصادية المصرية.
أما سورية، فهي تخضع بدورها للعقوبات الأمريكية قبل الحرب الروسية-الاوكرانية. منذ بداية عام 2022 حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنّ 90% من السوريين يعيشون على عتبة الفقر؛ وأن 60% منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. تتحكم الإدارة الكردية الذاتية، التي تتلقى الحماية المباشرة من الجيش الأمريكي في شرق الفرات، بالاحتياجات الغذائية للمواطنين السوريين؛ فهذه المنطقة هي سلة سورية الغذائية ومصدرها الأول في إنتاج القمح؛ إذ قدّرت الأمم المتحدة انتاج تلك المنطقة من القمح بنحو 1.05 مليون طن في عام 2021. وبسبب تخريب أراضيها الزراعية، أبرمت سورية، في العام الماضي، عقوداً لاستيراد نحو مليون طن من القمح، وهي قيد التوريد.
أما لبنان، فلقد تأثّر بشكل كبير بسبب الأزمة الاقتصادية والضغط الأمريكي على دول بعينها من أجل عدم مساعدته، إضافة الى انفجار المرفأ وانهيار إهراءات القمح؛ فلبنان أيضاً من المستوردين الرئيسيين للقمح من روسيا وأوكرانيا.
ستكون المرحلة القادمة الأصعب؛ لأن الدول تستهلك الآن مخزونها الاستراتيجي من الغذاء والحبوب. قد يساعد الإنتاج المحلي لشهر يونيو الماضي في توفير المزيد من الحبوب، ولكن بعد انتهاء فترتي الصيف والخريف سيكون هناك المزيد من الطلب. وفي الشتاء سترتفع أسعار الغاز، وهذا بدوره سيؤثر على أسعار الأسمدة والغذاء، وستكون الأزمة أكثر تعقيداً في نهاية الشتاء إذا لم نجد الحلول المناسبة لها.
لا يمكن أن نتصور أية حلول إلا برفع العقوبات عن روسيا وإيقاف الحملات الدعائية الرامية إلى إلقاء المسؤولية على روسيا؛ فالدول الغربية تحاول تأليب العالم على روسيا واعتبارها السبب المباشر في الأزمة،
و تُغفل دور العقوبات و استمرارها بدعم الحرب في ذلك. المسؤول الرئيسي عن الأزمة هو من يدفع إلى إطالة أمد الحرب، أي الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يمكن حل هذه الأزمة بتبادل الاتّهامات بين الأطراف المختلفة، بل بالتفكير الجماعي والحوار البنّاء بين جميع الأطراف العالمية، سواء المنتجين أو المستهلكين.
= = = = =
*الأستاذة الدكتورة هدى رزق – باحثة ومحاضرة في علم الاجتماع السياسي، كاتبة في الشؤون الإقليمية والدولية (الجامعة اللبنانية).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً