بقلم الدكتور نجم الدليمي*
المطلب الرابع: الاتحاد السوفيتي دولة العدالة الاجتماعية: حقائق وبراهين
أولاً: أفضلية وفاعلية الاشتراكية
كانت طبيعة النظام القيصري في روسيا الاتحادية قبل ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى هجينة، فلقد عكس النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القيصري تشابك العلاقات الانتاجية الرأسمالية المتخلفة في المدينة، مع وجود بقايا من علاقات القنانة (العبودية)، إضافةً إلى العلاقات الانتاجية الإقطاعية في الريف الروسي؛ أي تشابك العلاقات الانتاجية الرأسمالية المتخلفة مع علاقات القنانة والعلاقات الاقطاعية في آن واحد. لقد كان نظاماً فريداً من نوعه.
من المعلوم أن الفترة الزمنية بين إلغاء نظام القنانة في روسيا القيصرية، التي كانت بلداً رأسمالياً متخلفاً، إلى قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، أي بين عامي 1861-1917، حوالي 56 عاماً.
و منذ قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية واجه الاتحاد السوفيتي حروباً ثلاث في الفترة 1917-1991 منها:
آ-الحرب الأهليّة بين عامي 1918-1922، التي ذهب ضحيتها ما بين 8-10 مليون نسمة وحظيت قوى الثورة المضادة بدعم مالي وعسكري من قبل 14 دولة رأسمالية، كبريطانيا واليابان وأمريكا وألمانيا، ناهيك عن الحصار الاقتصادي والعسكري المفروض على الشعب السوفيتي. وبالرغم من هذا الدعم الخارجي لقوى الثورة المضادة تمّ القضاء عليها تحت قيادة لينين وستالين العظيمين.
ب-الحرب الوطنية العظمى بين عامي 1941-1945، حيث قاوم الشعب السوفيتي النازية الألمانية اللقيطة والوريث الشرعي للنظام الإمبريالي العالمي وتمّ القضاء عليها في عقر دارها. تكبّد الشعب السوفيتي خسائر بشرية هائلة قدرت ما بين 27-30 مليون شهيد، وهناك تقديرات أخرى تؤكد أن الاتحاد السوفيتي فقد نحو32 مليون شهيد، ناهيك عن الخراب والدمار الاقتصادي والخسائر المادية. كان هدف هتلر من حربه غير العادلة ضد الشعب السوفيتي هو تقويض النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي والاستحواذ والهيمنة على ثروات الشعب السوفيتي.
ج-الحرب الباردة بين عامي 1946-1991، التي خططت لها لندن وواشنطن بالدرجة الأولى، وحدثت مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. لم يكن هدف لندن وواشنطن مختلفاً عن هدف هتلر تجاه الاتحاد السوفيتي وتجاه الشعب السوفيتي في معاداة الشيوعية ومعاداة الشعب السوفيتي. كانت النفقات مرعبة على الحرب الباردة، وتؤكد بعض التقديرات أنها تراوحت بين 13-15 ترليون دولار أمريكي، عادت حصة الأسد فيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك، فعمر البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي هو عملياً نحو 74 عاما (1917-1991)، ولو طرحنا منها فترات الحروب التي خاضها الاتحاد السوفيتي لحصلنا على 19 عاماً فقط. هذه هي الحقيقة الموضوعية المرة والغائبة عن بعض أصدقاء ورفاق وأعداء الاتحاد السوفيتي. وبالرغم من هذه الحروب غير العادلة ضد الشعب السوفيتي إلا أن القيادة التاريخية للشعب السوفيتي، وعلى رأسها لينين وستالين العظيمين، حققت إنجازات كثيرة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعسكرية، لم يتم تحقيقها في أي بلد رأسمالي. كانت هذه المنجزات نموذجاً حياً وملموساً وملهماً لجميع شعوب العالم بما فيها شعوب البلدان الرأسمالية.
ثانياً-تحقيق العدالة الاجتماعية: الدليل والبرهان
ضمن الدستور الاشتراكي السوفيتي حق العمل للمواطن دستورياً، وهذا يعني القضاء وبشكل نهائي على البطالة والفقر في المجتمع الاشتراكي اللاطبقي.
كما ضمن الدستور الاشتراكي السوفيتي مجانية التعليم ولجميع مراحله الدراسية دون تمييز بين المواطنين. واعتمد الدستور مبدأ الكفاءة العلمية وخاصة في الدراسات العليا كالبكالوريوس والماجستير والدكتوراه. فقد المواطن الروسي اليوم هذا الحق المشروع والطبيعي؛ فمن يملك المال يستطيع الحصول على التعليم وخاصة التعليم العالي.
كما ضمن الدستور السوفيتي مجانية العلاج لجميع المواطنين السوفييت، أما اليوم فلم يعد ذلك متوافراً للمواطن الروسي، لأن الدولة تخلت عن هذا القطاع وتركته للقطاع الخاص، وأجور الطبابة مرتفعة جداً؛ إذ كلفة حشوة دائمة حوالي 200 دولاراً أمريكياً، في حين أن الراتب التقاعدي يتراوح بين 110-130 دولاراً في الشهر.
أما بخصوص موضوع المسكن، فلقد ضمن الدستور الاشتراكي السوفيتي مجانية السكن لجميع المواطنين دون تمييز، و وفق خطة حكومية مدروسة، وفي جميع الجمهوريات السوفيتية الأخرى أيضاً. و في هذا القطاع الهام يوجد شكلان: القطاع السكني الحكومي وهو مجاني، و القطاع التعاوني للسكن. في القطاع الأخير يتم بناء أبنية سكنية للمواطنين وفق ضوابط محددة وبسعر محدد، ويتم دفع مبلغ أولي نحو 30% من سعر الشقة، أما المبلغ الباقي فيتم دفعه وفق دفعات مقبولة من راتب المواطن ولمدة 25 عاماً. فلقد كان سعر الشقة المكونة من 3 غرف حوالي 3000 دولاراً أميركيا في عام 1987 مثلاً، وفق الشروط التي ذكرناها في الأعلى. وهذه الشقة نفسها أصبح سعرها اليوم أكثر من 600 ألف دولار، وهذا يعكس طبيعة التوحش الرأسمالي. أما كلفة الخدمات السكنية لهذه الشقة فكانت لا تزيد شهرياً عن 25 روبلاً، أما اليوم فتجاوزت خدمات الشقة في القطاع التعاوني أكثر من 13000 روبلاً شهرياً. ناهيك عن وجود شقق سكنية ذات أسعار مرتفعة جداً، هذا إضافةً إلى القصور والفلل الفخمة داخل وخارج روسيا الاتحادية. في لندن، على سبيل المثال، تُقدَر قيمة العقارات للأغنياء الروس بحوالي تريليون و200 مليار دولار أمريكي، وهذا لم نعهده في زمن الاتحاد السوفيتي أساساً.
لقد ضمن الدستور الاشتراكي السوفيتي المساواة بين الرجل والمرأة في العمل والأجور في المجالات كافة، وربط الأجر بطبيعة العمل؛ وهذا في الحقيقة يُشكّل تجسيداً للعدالة الاجتماعية والاقتصادية بين المواطنين. كما ضمن الدستور المساواة بين المواطنين في الاقتراع، والتّمتّع بالإجازة السنوية للعاملين في الاقتصاد الوطني، والرعاية الكاملة لكبار السن دون تمييز بين المواطنين، كما قرر الدستور سن التقاعد للمرأة بـ 55 عاماً و للرجل بـ 60 عاماً.
ضمن الدستور أيضاً المساواة بين جميع القوميات في مجالات الحياة كافة، وتم القضاء على الاضطهاد والاستغلال القائم على الأساس العرقي والقومي، وهذا ما ساعد على التوحيد بينها؛ وخير دليل على ذلك وحدة الشعب السوفيتي في دحر النازية الألمانية في الحرب الوطنية العظمى 1941-1945. علاوة على ذلك ضمن الدستور الاشتراكي السوفيتي حق المساواة والسيادة الوطنية لجميع شعوب الاتحاد السوفيتي.
ضمن الدستور السوفيتي المساواة بين الأطفال في دار الحضانة ورياض الأطفال دون تمييز. كما أن التكاليف كانت زهيدة جداً وتكاد تكون شبه مجانية من حيث الاهتمام والرعاية الصحية وتقديم الغذاء.
ضمن الدستور الاشتراكي السوفيتي كذلك سياسة سعرية واحدة، يتم تحديدها من قبل الجهات المعنية، تأخذ بعين الاعتبار رواتب وأجور المواطنين. ناهيك عن الدعم الحكومي للسلع الغذائية والدوائية، لكي تكون في متناول الجميع بالدرجة الأولى، هذا إضافةً إلى الرقابة الصحية على هذه السلع من قبل الجهات المعنية، الأمر الذي ساعد على تحقيق الأمن والاستقرار والسلام لجميع المواطنين السوفييت.
أما بخصوص عدد سكان الاتحاد السوفيتي ففي عام 1920 كان نحو 137 مليون نسمة، وأصبح في عام 1939 نحو190 مليون نسمة، ووصل في عام 1990 إلى 300 مليون نسمة. كان معدل الولادات يزيد على معدل الوفيات في الاتحاد السوفيتي، على عكس ما حدث ويحدث في روسيا الاتحادية بشكل عام، خاصةً خلال الفترة 1992-1999، وهي فترة حكم الرئيس الروسي بوريس يلتسن.
خلال المدة 1919-1984، ضمّت المكتبات العلمية في الاتحاد السوفيتي نحو 7.4 مليار كتاب، في حين لم يزدْ عدد الكتب في روسيا القيصرية عن 9 مليون كتاب. وزاد عدد المكتبات من 95.4 ألف مكتبة عام 1940 الى 133.8 مكتبة في عام 1984. كما زادت عروض الأفلام السوفيتية من 28 ألف فيلم إلى 151.4 ألف فيلم للفترة نفسها. حملت هذه الأفلام طابعاً إنسانياً هادفاً وواعياً، الأمر الذي أدّى إلى خلق الوعي الوطني والطبقي الملتزم. كما كان عدد رواد المسارح سنوياً نحو 121 مليون شخص، ورواد الحفلات الموسيقية والغنائية نحو 160 مليون شخص، كما تواجدت في الاتحاد السوفيتي أكثر من 236 فرقة رياضية، وصل عدد أعضائها إلى أكثر من 60 مليون فرد.
إن جميع ما تم ذكره في الأعلى، وغيره الكثير في الميادين كافة، كان لخدمة المواطنين السوفييت، وبدون تمييز بينهم؛ وهذا في الحقيقة تجسيد للعدالة الاجتماعية في المجتمع اللاطبقي. لقد تم تطبيق جميع الشعارات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي على أرض الواقع ولمصلحة جميع المواطنين السوفييت.
هذا جزء من منجزات الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وهذه هي العدالة الاجتماعية التي تم تحقيقها في المجتمع الاشتراكي اللاطبقي بين العامين 1917-1991. أما بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1992 وحتى اليوم، فقد المواطنون في الفضاء ما بعد السوفيتي معظم حقوقهم المشروعة التي حصلوا عليها أثناء الحكم السوفيتي، واختفت العدالة الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الطبقي، وتشكل مجتمع برجوازي مشوّه في تركيبته الاجتماعية والاقتصادية. استطاع فقط 1% من المجتمع استحواذ 99% من ثروة الشعب، وهذا كان مستحيلاً في الاتحاد السوفيتي. كما ظهرت فئة المليونيريين والمليارديريين، وهذا كان ضرباً من الخيال في الاتحاد السوفيتي. و هذا ما هو إلا انعكاس لتوحش الرأسمالية، أينما حلّت وأينما طبّقت سواء في دول المركز أو في دول الأطراف (في رابطة الدول المستقلة، أي جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً).
يتبع …
= = = = =
*الدكتور نجم الدليمي – باحث وأستاذ جامعي متقاعد.
1-د. نجم الدليمي، دور قوى الثالوث العالمي في تفكيك الاتحاد السوفيتي، دار أمجد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عمان، الأردن، 2017.
2-الاتحاد السوفيتي بالأرقام موسكو، السنة 1984، باللغة الروسية.
3-جريدة روسيا السوفيتية، 13/12/2022، باللغة الروسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.