بقلم الدكتور نجم الدليمي*
بتاريخ 17 آذار 1991 تمّ إجراء استفتاء شعبي وديمقراطي وبسؤال واحد: هل توافق على وجود أو عدم وجود الاتحاد السوفيتي؟
من الغريب حقاً أن يتمّ إقرار وجود أو عدم وجود دولة عظمى، بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، بسؤال واحد! إنه سؤال مخالف لسيرورة الطبيعة والمجتمع، فكما أنّ النظم الطبيعية والاجتماعية متعددة الأبعاد، فكذلك عوامل وجود أو عدم وجودها، لقد كان هذا الاستفتاء الخطوة الأولى نحو تدمير الاتحاد السوفيتي.
على هذه الخلفية تبرز الأسئلة الآتية:
كيف وافقت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، وكيف وافق مجلس السوفيت الأعلى (البرلمان) على مثل هذا السؤال المخالف للدستور الاشتراكي السوفيتي؟
كيف وافق جهاز أمن الدولة السوفيتية (كي. جي. بي) على هذا السؤال؟
لماذا صمتت القيادة العسكرية السوفيتية عن هذا السؤال؟
أين دور ومكانة الطبقة العاملة وحلفائها من هذا السؤال؟
أين دور و مكانة الشبيبة الشيوعية من هذا السؤال غير القانوني؟
وهناك الكثير من علامات الاستفهام حول ما حدث في تلك الأيام.
إن طرح هذا السؤال الغريب من قبل غورباتشوف وفريقه، الذي تشكل من ياكوفلييف وشيفيرنادزة ويلتسن و كرافجوك، وغيرهم من قوى الثورة المضادة في الاتحاد السوفيتي، من الليبراليين والإصلاحيين المتطرفين المدعومين من قبل بعض القوى العالمية وبعض المؤسسات العالمية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدوليين و وكالات الاستخبارات الغربية يقترب من حد العمالة لهذه القوى الأجنبية.
لقد كان هذا السؤال بمثابة (قنبلة ذكية)، تمّ التخطيط لها بعناية فائقة، وانفجرت بتاريخ 17 آذار 1991.
ورغم كل ذلك وغيره، إلا أن الشعب السوفيتي صوَّت لصالح بقاء الاتحاد السوفيتي بنسبة 78 بالمئة، إلا أن غورباتشوف وفريقه، وبتوجيه من واشنطن ولندن، رفضوا نتيجة التصويت الشعبي!
تأزّم الوضع الداخلي في الاتحاد السوفيتي في المجالات كافة ًالاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، فاقترحت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي إعلان حالة الطوارئ في بعض الجمهوريات السوفيتية، كجمهوريات البلطيق وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، بهدف معالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتدهور، ووافق غورباتشوف على المقترح في أبريل 1991. بدأت في تلك الأثناء تظهر حالات غريبة في الشارع السياسي السوفيتي؛ كاجتماعات يحضرها قلّة من الرعاع، يتم فيها مهاجمة الحزب الشيوعي السوفيتي والاتحاد السوفيتي، وحملات من النقد اللامشروع واللاقانوني مدفوع الثمن. للأسف لم يتّخذ أعضاء جهاز أمن الدولة السوفيتية (كي. جي. بي) أيّ إجراءات ضد هذا النوع من الاجتماعات. وتؤكّد العديد من المصادر أن هذه الاجتماعات كانت تدار من قبل قيادات وعناصر غير روسية.
في 8 آب 1991، سافر غورباتشوف وعائلته للتّمتّع بالإجازة السّنوية في شبه جزيرة القرم، مع العلم أن البلد كان على حافة التفكك. تم تشكيل لجنة الدولة للطوارئ، ولقد وافق غورباتشوف شخصياً على أعضاء هذه اللجنة التي ضمّت: وزير الدفاع، وزير الداخلية، ورئيس جهاز أمن الدولة السوفيتية وغيرهم. إلا أن هذه اللجنة فشلت في لعب أي دور في حل المشاكل المتصاعدة في تلك الفترة.
في 19-22 أيلول تم إعلان حالة الطوارئ في البلاد، ولم تتخذ اللجنة أي قرار حاسم للحفاظ على الاتحاد السوفيتي. بعد فشل أعضاء لجنة الطوارئ تم اعتقالهم من قبل يلتسين وفريقه، بدعم فعلي من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا. بعد اعتقال أعضاء لجنة الطوارئ، خرج مؤيدو يلتسين في موسكو، ولم يكن يزيد عددهم عن 5000-6000 متظاهراً، أغلبهم من الرُّعاع وبعض الشباب الذين خرجوا للفرجة. لقد كانت هذه الخطوة مسماراً جديداً تمّ دقُّه في نعش الاتحاد السوفيتي.
في 8-9 ديسمبر 1991، اجتمع بوريس يلتسن رئيس روسيا الاتحادية، مع كرافجوك رئيس أوكرانيا، وشوشكيفيج رئيس البرلمان البيلاروسي، وقررت هذه المجموعة تفكيك الاتحاد السوفيتي. كان الاجتماع في مينسك، ولقد تمّت تسمية المعاهدة بمعاهدة بيلوشوفسكايا بوشا. في نفس اليوم، اتّصل بوريس يلتسين بالرئيس بوش الأب لكي يبلغه قرار تفكيك الاتحاد السوفيتي. كانت هذه الخطوة الحاسمة في تفكيك الاتحاد السوفيتي نهائياً.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أندريه كوزيروف، وزير الخارجية الروسي في عهد حكم بوريس يلتسين، والذي استمر في هذا المنصب لمدة 5 سنوات. كان الشعب الروسي يطلق عليه اسم (موظف لدى الخارجية الأمريكية) وليس وزيراً للخارجية الروسية، وهو الآن هارب خارج البلاد ويقيم في الولايات المتحدة الأمريكية و يطالب بتقويض النظام في موسكو.
تؤكد جميع هذه الحقائق أن تفكيك الاتحاد السوفيتي لم يكن نتيجة سيرورة تطوريَّة طبيعية، بل كان بمشاركة مقصودة وواعية من قبل بعض أفراد النخبة الحاكمة في تلك الفترة، مع دعم غربي مباشر بكل تأكيد.
= = = = =
*الدكتور نجم الدليمي – باحث وأستاذ جامعي متقاعد.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً