بقلم الأستاذ أحمد رفعت يوسف*
أكدت التحولات الجيوسياسية، الإقليمية والدولية، في الميادين السورية واليمنية والأوكرانية، وبعد طوفان الأقصى، أنّ توازناتِ القوى والقوة، الإقليمية والدولية، اتخذت مساراً لا رجعة عنه، للانتقال من عالم القطب الواحد، برأسه الأمريكي، إلى العالم المتعدد الأقطاب، برؤوسه بكين موسكو طهران، وأن منطقة غرب آسيا، وفي قلبها بلاد الشام، عادت لتأخذ دورها، الذي عرفت فيه على مدى التاريخ، بأنها المنطقة، التي تحدد مسار صعود وانهيار الإمبراطوريات، والدول العظمى.
هذا المسار، أكّد أن الكيان الصهيوني، بما يشكل الأساس، والرأس المتقدم، للمشروع الاستعماري الغربي، أصبح أمام خطر وجودي حقيقي، يجعله يدخل المرحلة، التي حذّر منها القادة المؤسسون للكيان، وهي “اليأس وفقدان الأمل” والتي تعني الانهيار والتفكك، ومن يتابع الإعلام الصهيوني، وآراء النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية، يرى أنهم أكثر من يتحدث عن هذا المصير، خاصة وأن طبيعة المجتمع الصهيوني، تساعد على التفكك السريع للكيان، مع حمل معظم المستوطنين، لجنسيات مزدوجة، ولديهم أماكن إقامة في دول أخرى، وهذا يسهّل عليهم، الذوبان في مجتمعات هذه الدول، بدون حدوث أزمة لجوء، ومن يتابع حركة شراء المستوطنين الإسرائيليين، للبيوت والشقق، خارج فلسطين المحتلة، وخاصة في رومانيا وبلغاريا، يدرك هذه الحقيقة.
وباعتبار أن تفكك وانهيار الكيان الإسرائيلي، سيرافقه إخراج أمريكا من منطقة غرب آسيا، وهو ما يعني النهاية الحقيقية، لهيمنة المنظومة الاستعمارية الغربية، مع ما يعني ذلك، من الإطاحة، بكل ما تم رسمه في المنطقة، بناء على مصالح هذه المنظومة، بدءاً من المؤتمر الصهيوني العالمي الثالث، الذي عقد في مدينة بازل السويسرية، في آب/أغسطس 1899، واتفاق سايكس بيكو عام 1916، وتمزيقه لمنطقة بلاد الشام، إلى وعد بلفور عام 1917، إلى قيام الكيان الصهيوني عام 1948، والكيانات التي أقيمت لحمايته، مروراً بعدوان حزيران/يونيو عام 1967، وحرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، ومروراً بما شهدته المنطقة، من حروب، ومعارك بين الحروب، واتفاقيات استسلام وتطبيع، وصولاً إلى طوفان الأقصى، وهذا سيجعل من انهيار الكيان الصهيوني، البؤرة الزلزالية، التي ستنتج دوائر، وزلازل ارتدادية، تطيح بكامل الخرائط الجيوسياسية، في منطقة غرب آسيا، وامتداداتها في كل الاتجاهات، من بحر الصين، إلى أوكرانيا، وكامل القارة الأوروبية.
مع هذه التطورات، يصبح من السهل، معرفة الكثير من تفاصيل الخريطة الجيوسياسية، التي ستنشأ عن انهيار الكيان الصهيوني، والانسحاب الأمريكي من غرب آسيا، وانتصار روسيا في أوكرانيا، والعجز الأمريكي، عن خوض معركتها مع الصين، وسيكون من أبرز مشاهدها:
-انهيار الكيانات الوظيفية، في لبنان والأردن والسلطة الفلسطينية، والتي أقيمت لحماية الكيان الصهيوني، وإضعاف سورية، الدولة المركزية في بلاد الشام، والنقيض للكيان الصهيوني، وهذا يجعل من سورية، الدولة المهيأة لملء هذا الفراغ، خاصة إذا ما تمكنت من الخروج من أزماتها الحالية، لتعود كما هي، بحدودها التي تشمل كامل بلاد الشام.
-في شبه الجزيرة العربية، حيث نظام آل سعود، التوءم الثاني للكيان الصهيوني، ومعه الكيانات الهشة، التي أقيمت، للقيام بوظائف ترفع الحرج عن نظام آل سعود، فكانت البحرين، مقراً للأسطول الخامس الأمريكي، وقطر مقراً لقاعدة العديد، وهي الأكبر خارج الأراضي الأمريكية، والإمارات مقراً للشركات والبنوك الغربية والصهيونية، ومحطة لمنتجاتها، باتجاه الأسواق الآسيوية، والكويت التي لم تكن، سوى فائض جغرافي، مقتطع من العراق، أما سلطنة عمان، فتبدو محافظة على موقعها، بما تمتلكه من جذور، وإرث تاريخي، في المنطقة، أما اليمن، فهو البلد، الذي أكد أنه الأكثر رسوخا وقوة، في شبه الجزيرة العربية.
هذا يعني، أن نظام آل سعود، سينهار مع انهيار توءَمه الكيان الصهيوني، وستنهار معه الكيانات الوظيفية، في قطر والبحرين والإمارات والكويت، لتبقى شبه الجزيرة العربية، مقتصرة على ثلاث دول، وهي اليمن بحدود أوسع من حدوده الحالية، مع استعادة أراضيها التي ضمّتها السعودية، وسلطنة عمان، ونجد والحجاز، ولكن بنظام غير نظام آل سعود، ستكون حدوده وشكله النهائي، مرتبطة بتطورات الميدان اليمني.
-نظام كامب ديفيد، وحكم العميل السيسي، سينهار بشكل تلقائي، مع انهيار الكيان الصهيوني، وسينشأ نظام وطني، يعيد لمصر دورها المفقود.
-تركيا التي هددت الأمن القومي، للقوى الصاعدة، روسيا والصين، من خلال مشروع العثمانية الجديدة، والعصابات الإرهابية، التي جلبتها من هذه الدول، لاستخدامهم لاحقاً فيها، بحسب مخطط الشرق الأوسط الجديد، وهددت بهم إيران أيضاُ، كما أن الحيز الاستراتيجي، الموجود في المنطقة، لم يتسع عبر التاريخ، لإيران قوية، وتركيا قوية، وهذا يؤكد، أنّ لهذه الدول، حساباً مفتوحاً مع تركيا، ستدفع ثمنه لاحقاً، مع رسم الخرائط الجيوسياسية الجديدة للمنطقة، وهذا سيجعلها، إما مقسمة أو ضعيفة.
-أبعد من المنطقة، فأوكرانيا، كل المؤشرات تدل، على أنها ذاهبة إلى التلاشي كدولة، وتقسيم أراضيها، بين روسيا وبولندا ورومانيا، وهذا سيفتح الباب واسعاً، أمام عودة صراعات الحدود الأوروبية، التي نشأت بشكل تعسفي، يتناسب مع مصالح الدول المنتصرة، في الحرب العالمية الثانية.
-بريطانيا وفرنسا، التي انتهت كدول امبراطورية، بعد حرب السويس عام 1956، ستنتهي كدول عظمى، بعد طوفان الأقصى، وتتراجع إلى مجرد دول أوروبية، على غرار إسبانيا وبولونيا، ووحدها ألمانيا، ستنجو من هذا الزلزال الجيوسياسي، وستتمكن من الحفاظ على دور ومكانة لها، في المنظومة المتعددة الأقطاب، التي تتشكل.
-كما سنشهد، صعود دول عظمى جديدة بديلة، تقع كلها خارج المنظومة الأمريكية الأوروبية، مثل إيران، والبرازيل، والهند، وجنوب إفريقيا، ومصر.
-انتهاء الهيمنة الأمريكية الغربية، على الأمم المتحدة والمؤسسات الأممية، وتشكيل تنظيم أممي بديل عنها.
-أما الصين، فتبدو الأكثر ربحاً من هذه التطورات، حيث تتراجع قدرة الولايات المتحدة الأمريكية، على خوض الحرب التي تهدد بها الصين، خاصة بعد الإذلال الذي تعرضت له بحريّتُها، على يد اليمنيين، وهذا سيجعلها تربح انتصاراً استراتيجياً، على الولايات المتحدة الأمريكية، بدون أن تطلق طلقة واحدة، وسيكون من السهل عليها، في الوقت الذي تراه مناسباً، ضم تايوان، والسيطرة على شركات الشرائح الالكترونية، التي تنتجها تايوان، والتي تقدم 90 بالمئة، من حاجة العالم من هذه الشرائح، التي تدخل في كل الصناعات العسكرية والمدنية الحديثة، وهو ما يرعب واشنطن، وكانت السبب في كل هذا الجنون الأمريكي، من الصين.
-أما الولايات المتحدة الأمريكية، فكل مراكز الأبحاث، والنخب السياسية والعسكرية الأمريكية والأوروبية، تؤكد أنها ذاهبة إلى التفكك، على طريقة الإمبراطورية الرومانية، أي بدون أن تبقى دولة منها وريثة لها، بالطريقة التي ورثت فيها روسيا، الاتحاد السوفييتي.
هذا يؤكد، أن ما نراه اليوم، هو من الأحداث المفصلية، التي تحدث مرة كل 400 إلى 500 سنة، والتي تغير وجه العالم، وآخرها كان سقوط الأندلس، والقسطنطينية، وظهور المرحلة الاستعمارية الغربية، وصعود الامبراطورية العثمانية.
وعلى الطريق لهذه التحولات، سنكون شهوداً، على مدى أكثر من عقد من الزمن، على دراما جيوسياسية مثيرة، وستكون فيها محطات تحبس الأنفاس، وسيكتب العالم، أن معركة طوفان الأقصى وتداعياتها، أرَّخَتْ لعالم جديد، وسيكون هناك، ما قبل طوفان الأقصى، وما بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ أحمد رفعت يوسف -إعلامي و باحث سياسي.
*نُشر المقال في صحيفة “لا” اليمنية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً