بقلم الأستاذ علي سليمان*
من الجيد أن المسلمين بشكل عام (حكوماتٍ وشعوباً) لم يُؤخذوا باستفزازات خصومهم هذه المرة. فالخصوم يريدونهم أن يفقدوا اتزانهم العقلي ويقوموا بردود أفعال عنيفة كردّ على حادثة إحراق القرآن الكريم؛ وذلك تعزيزاً لحالة الإسلاموفوبيا (الرهاب الإسلامي) الموجودة في أوروبا، وخدمةً لغايات باتت مكشوفة، يسعى لترسيخها اليمين المتطرف بزعامة راسموس بالودان الذي أقدم على حرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية في العاصمة السويدية ستوكهولم في 21 يناير 2023.
لكن على عكس المتوقّع تماماً فقد عبّر العالم الإسلامي بالشكل الحضاري الأمثل عن استيائه من هذه الأفعال، وصرّح بإدانات رسمية ومواقف سياسية. ففي هذا السياق أدانت دول عربية وإسلامية حادثة إحراق القرآن الكريم ونستذكر بعضها:
قالت منظمة التعاون الإسلامي: إن هذه الخطوة عمل استفزازي يستهدف المسلمين ويهين قيمهم المقدسة. و شددت السعودية على أهمية نشر قيم الحوار والتسامح والتعايش ونبذ الكراهية والتطرف.
كما أعلنت الإمارات رفضها كل الممارسات التي تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار، بما يتعارض مع القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية.
و حثّت الكويت المجتمع الدولي على وقف مثل هذه الأعمال المرفوضة ونبذ كافة أشكال الكراهية والتطرف ومحاسبة مرتكبيها.
و حذرت مصر من مخاطر انتشار هذه الأعمال التي تسيء إلى الأديان وتؤجج خطاب الكراهية والعنف.
و وصفت تركيا حرق نسخة من المصحف بأنه تصرف (دنيء)، وقالت إن قرار الحكومة السويدية الذي سمح بإقامة المظاهرة كان (غير مقبول على الإطلاق). وبعد الإعلان عن المظاهرة، ألغت تركيا زيارة وزير الدفاع السويدي بال جونسون، وقالت: “إن الزيارة فقدت أهميتها ومعناها”.
وبدورنا نتمنى أن تتطور الردود والإدانات من هذا المستوى إلى مستوىً آخر، تتم فيه مقاطعة المنتجات وإغلاق السفارات السويدية والهولندية، بالإضافة الى المطالبة بتقديم اعتذار رسمي وإعادة تفعيل قوانين المحاسبة الخاصة بازدراء الأديان والمقدسات.
الآن؛ من الأفضل أن نتناول حوادث إحراق القرآن الكريم كظاهرة نشطة في الغرب، لا كحدث عابر أو فردي؛ لأن الحادثة التي حصلت مؤخّرًا في السويد، لم تكن هي الأولى من نوعها، ونعتقد مع هذا الصعود الواضح لليمين المتطرف في أوروبا أنها لن تكون الأخيرة.
فبعد أيام قليلة من حادثة السويد جرت حادثة مماثلة في هولندا، وتحديداً في مبنى البرلمان الهولندي، إلا أن الفاعل هذه المرة لم يكتفِ بتمزيق المصحف بل داسه بقدميه أيضاً. والحقيقة أن لهذه الأفعال دلالات تؤكّد بأن هذه الظاهرة ليست فردية فحسب. بالطبع، نحن لسنا هنا بصدد شرح الكيفية التي تمّت بها هذه الحوادث، والتي يجب أن تصنّف على أنها جرائم كراهية، ولا بكيفية الرد عليها، بل نريد أن نوضح دلالاتها في سياقها التاريخي.
من المؤكد أن حادثة إحراق القرآن الكريم في السويد ليست فعلًا فرديًّا، كما أراد البعض تصويرها؛ لأن مثل هذا الفعل يمكن أن يصدر عن أي شخص مختل أو موتور أو حاقد بشكل عادي في الشارع؛ ولكن الأمر في السويد بدا منظّماً ومخطّطاً بشكل محكم وتحت حراسة الشرطة و بإذن رسمي من السلطات وأمام السفارة التركية. وهذه رسالة إستفزازية واضحة أرادت السويد إيصالها إلى تركيا التي لم توافق على انضمامها إلى حلف الناتو.
إضافةً إلى ذلك، وقائع تدنيس المقدسات تكررت كثيرًا في السنوات الأخيرة سبقتها حوادث مشابهة، ومنها على سبيل المثال:
-الرسومات المسيئة للرسول محمد والتي نُشرَت سنة 2005 في صحيفة دانماركية، وأعيد نشرها في صحف نرويجية وهولندية وألمانية، ثم أعيد نشرها بعد ذلك سنة 2020 في صحيفة شارل إيبدو الفرنسية.
-الفيلم الهولندي المسيء للرسول محمد والذي أثار موجة غضب عارمة في العالم الإسلامي آنذاك.
هذا، في الحقيقة، يدعم وجهة نظرنا بأن تكرار هذه الحوادث هي استفزازات مخطّطة ومدروسة ولها مآرب محددة. دليلنا الأنجع على ذلك أن جميع هذه الحوادث لم تلقَ في الغرب إدانة حقيقية على المستوى الرسمي أو الشعبي، وكأن هنالك حالة من الرضا والقبول العام عن هذه الأفعال، إذ يتم النظر إليها باعتبارها حوادث لا تستحق الإدانة أو العقاب! وقد رأينا من قبل كيف رفض الرئيس الفرنسي ماكرون إدانة صحيفة شارل إيبدو التي نشرت الرسومات المسيئة للرسول، معتبراً ذلك أمرًا يتعلق بحرية الرأي! ورأينا رئيس وزراء السويد يصف الواقعة الأخيرة في ستوكهولم أمام السفارة التركية بأنها فعل قانوني ولكنه غير ملائم ومشين! والمتحدث باسم الخارجية الأمريكية يصف هذه الواقعة على النحو ذاته بأنها مشينة وقانونية في الوقت ذاته!
بناءً على ذلك، يمكن تلخيص غالبية المواقف الغربية من هذه الحوادث بأنها (استفزازية لكنها قانونية)، بدعوى أنها تدخل في باب حرية الرأي والتعبير، متغافلين تماماً عن أن حرية الرأي والتعبير لا تعني تدنيس المقدسات، وبأن تدنيس المقدسات يكشف عن وجه عنصري متطرف قد يولّد مواقف عنصرية مقابلة.
بالإضافة إلى التأكيد على ازدواجية المعايير الغربية التي تسن معظم دولها قوانين تجرِّم معاداة السامية، لكنها تلغي القوانين التي تجيز إهانة المعتقدات الأخرى. نستثني هنا بعض الدول، كروسيا مثلاً، والتي سنّ فيها الرئيس بوتين قوانينَ تجرّم ازدراء الأديان والمقدسات وتتيح حرية المعتقد.
مثل هذه المواقف آنفة الذكر تكشف بوضوح عن أن الحضارة الغربية بدأت تستنزف قيمها الأخلاقية وقواها الروحية أيضاً.
= = = = =
*الأستاذ علي سليمان – كاتب سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً