بقلم الدكتور آصف ملحم
انتهت جلسة الإستماع التحضيرية، التي جرت صباح 28 تموز الجاري في محكمة باسمان في موسكو، بالمطالبة بتصفية الوكالة اليهودية للهجرة (سخنوت) وإغلاق مكاتبها في روسيا، على أن تتم جلسة المحاكمة صباح يوم 19 آب القادم، وذلك وفقاً للمعلومات المنشورة على الموقع الرسمي للمحكمة. وأثناء المداولات لم يُسمَح للوفد الإسرائيلي، الذي قدم خصيصاً لمناقشة هذه القضية، بالدخول إلى قاعة المحكمة. كما أن المعلومات الواردة من محيط المحكمة تؤكد أن الجلسة جرت بهدوء، ولم يتم رصد أي احتجاجات هناك.
في الأسابيع الأخيرة، تصاعد الحديث عن هذا الموضوع، على المستويين الرسمي والشعبي، وكثرت التحليلات السياسية في مختلف وسائل الإعلام. لذلك نرى أنه لا بد من الإضاءة عليه وبحث جوانبه المختلفة، وهذا هو هدف هذه المقالة!
تأسست الوكالة اليهودية للهجرة في عام 1929، وهي تعمل على أراضي الجمهوريات السوفيتية السابقة منذ عام 1989؛ ولها مكاتب في عدة مدن روسية، كما أنه لها مكاتب في بيلاروسيا و أوكرانيا و ملدافيا و أوزبكستان و كازاخستان و أذربيجان و جورجيا. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى وجود العديد من المنظمات اليهودية في روسيا، التي ينصبّ اهتمامها على الفنون والآداب والثقافة اليهودية، كما أنها تهتم بالتاريخ و المتاحف و الآثار والمكتبات والأبنية التاريخية، وتقدم الخدمات الإجتماعية للجالية اليهودية هناك.
ولو بدأنا التحليل من البعد السياسي فإننا سنجد صعوبة كبيرة في وضع توصيف دقيق لطبيعة العلاقة بين روسيا و إسرائيل، إلا أن الثابت في القضية أن العلاقات الروسية-الإسرائيلية كانت ولا زالت علاقت براغماتية؛ فإسرائيل أبدت عدم رضاها عن تصاعد الوجود الروسي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط، كما أن إسرائيل إنحازت إلى أوكرانيا في موقفها من الحرب الروسية-الأوكرانية.
مما لا شك فيه أن القيادة الروسية تفهم جيداً طبيعة العلاقة بين إسرائيل والدول الغربية، كما أننا لا نعتقد أن الذاكرة الروسية قصيرة إلى ذلك الحد الذي ينسيهم الدعم الإسرائيلي لجورجيا عندما هاجمت الأخيرة مدينة تسخينفال عاصمة أوسيتيا الجنوبية؛ إذ تبين أن إسرائيل هي من قدّمت الأسلحة لجوروجيا في غزوها لأوسيتيا الجنوبية.
في الواقع، ما ذكرناه في الأعلى ليس سوى غيض من فيض مما يمكن كتابته حول طبيعة العلاقة السياسية بين روسيا وإسرائيل، ولكنه كافٍ للإستنتاج بأنها علاقات غير مستقرة على الإطلاق!
على هذه الخلفية يبرز السؤال: مع كل هذه التراكمات السلبية في العلاقات السياسية، لماذا اتخذت روسيا هذا الموقف الآن، أي بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، ولم تتخذه سابقاً؟ وفي الحقيقة، هذا سؤال مُحِقٌّ!
ربط البعض المسألة بأن روسيا بدأت تعود إلى آليات العمل التي كانت سائدة في الحقبة السوفيتية؛ فالساسة الروس أدركوا طبيعة الوضع الدولي والعلاقات الدولية و وصلوا إلى استنتاج واضح بأن الليبرالية الغربية والعولمة لا تتناسب مع ثقافة وحضارة روسيا؛ و إلى هذه النقطة أشار الرئيس بوتين صراحةً في مقابلته مع صحيفة الفاينانشال تايمز بتاريخ 27 حزيران 2019، حيث قال: برأيي انتهت صلاحية الفكرة الليبرالية! لذلك، وفقاً لوجهة النظر هذه، تم اتخاذ القرارات الروسية الأخيرة للحدّ من عمل هذه المنظمات غير الحكومية الأجنبية؛ لأنه من الصعب التحكم بنشاطها وضبط آليات عملها؛ كما أنها تحاول استقطاب الشخصيات العلمية والثقافية والشخصيات العاملة في مجال الصناعات العسكرية؛ علاوة على ذلك، تقوم هذه المنظمات بجمع المعلومات عن المواطنين وتحاول توجيه الرأي العام في البلدان التي تعمل فيها.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير بقصة المهندس-الرياضي اليهودي ناتان شارانسكي، الذي أدانته السلطات السوفيتية في سبعينيات القرن الماضي بتهمة جمع المعلومات لصالح إسرائيل، وتم وضعه في السجن لفترة طويلة، وبعد خروجه من السجن هاجر إلى إسرائيل في عام 1986 وتسلم هناك عدة حقائب وزارية، وأصبح ناتان لاحقاً ممثلاً للوكالة اليهودية في روسيا، وهذه الصدفة مدعاةٌ للتأمل والنظر!
نعتقد أن التحليل أعلاه لا يمثل سوى وجهاً واحداً من الوجوه المتعددة لهذه المسألة؛ فموظفو الوكالة اليهودية يتقاضون أجوراً عالية، وهذا يعرفه الجميع، لذلك يصبح السؤال عن طبيعة عملهم سؤالاً وجيهاً؛ خاصةً إذا علمنا أن المواطنين اليهود يستطيعون تنظيم إجراءات الهجرة إلى إسرائيل عن طريق السفارات والقنصليات، أو حتى عن بعد باستخدام الإنترنت. علاوة على ذلك، يوجد مكتب ارتباط، اسمه (ناتيف)، يتبع لرئيس الوزراء الإسرائيلي مباشرةً، مهمته متابعة قضايا الهجرة إلى إسرائيل.
وفقاً لما يتناقله الناس، في وسائل التواصل الإجتماعي، فإنّ عمل هذه المنظمات محاطٌ دائماً بالسرية والكتمان؛ إذ يؤكد الكثيرون بأنه من الصعب الحصول على إجابات واضحة على الأسئلة التي يتم طرحها على القائمين على عمل هذه المنظمات. ويؤكد آخرون بأن هذه المنظمات تنشر الأفكار الصهيوينة بين أفراد الجالية اليهودية في روسيا. وروى البعض، ممن شارك في نشاطات هذه المنظمات، بأنه يتم تنظيم النشاطات الثقافية والإجتماعية والترفيهية، التي تهدف إلى تعزيز التواصل بين أفراد الجالية اليهودية و ربطهم بإسرائيل و التعريف بسياستها وطبيعة الحياة فيها!
في الواقع، هذه المنظمات تمارس النشاطات التي أشرنا إليها سابقاً منذ زمن بعيد، كما أن العديد من الجاليات والمجموعات الإثنية-الدينية تقوم بنشاطات مماثلة، وهذا الأمر تعلمه السلطات الروسية؛ إلا أن قوات الأمن الروسية داهمت مكاتب الوكالة اليهودية بالذات في الأشهر الماضية عدة مرات، وفتشت وثائقها، لينتهي الأمر بتحريك دعوى قضائية ضدها والطلب بتصفيتها وإغلاقها! لذلك من المرجّح أن تكون القوات الأمنية قد رصدت (انحرافات) عن النشاط الاجتماعي الثقافي باتجاه العمل الأمني، الذي ينعكس سلباً على سير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهذا سينعكس بالطبع على أمن القوات الروسية. ولقد اكتفت السلطات الروسية بوصف هذه (الانحرافات) بأنها انتهاك للقوانين الروسية؛ أي انتهاك للمواثيق التي بموجبها تم ترخيص هذه المنظمات، التي يتعهد مؤسسوها عادةً بالإلتزام بها أثناء تسجيلها كمنظمة غير ربحية؛ لذلك فإن ممارسة أي نشاط مخلٍ بالأمن يعتبر مخالفاً للقانون، وهذا من البديهيات التي لا تتطلب الشرح والتوضيح.
بطبيعة الحال، من الصعب جداً معرفة التفاصيل كلها؛ إذ تحاط المسائل الأمنية والاستخباراتية بالسرية والكتمان، ولكننا نستطيع فهم القصة انطلاقاً من بعض الحقائق التي لا يختلف عليها المراقبون.
مما لا شك فيه، تربط العاملين في مكاتب الوكالة اليهودية في روسيا علاقات جيدة مع اليهود المقيمين في أوكرانيا ومع مكاتب الوكالة هناك أيضاً. والجالية اليهودية الأوكرانية تتركز في خمس محافظات: زاباروجي، دنيبروبيتروفسك، نيكولاييف، خيرسون، أوديسا؛ وفي هذه المحافظات الخمسة تدور المعارك الرئيسية بين الطرفين الروسي والأوكراني. كما أنه يوجد في مدينة دنيبروبيتروفسك أكبر الاتحادات اليهودية الأوكرانية، التي ترأسها لفترة طويلة رجل الأعمال الإسرائيلي-الأوكراني إيغور كالامويسكي. كالامويسكي نفسه، مع رجال أعمال إسرائيليين ويهود أوكرانيين، كانوا من أكبر الداعمين والممولين للحملة الانتخابية للرئيس فلاديمير زيلينسكي؛ كما يرتبط الأخير بعلاقات جيدة مع كالامويسكي، وهذه العلاقات قائمة قبل أن يصل إلى سدة الرئاسة؛ إذ تُعتبَر القناة التلفزيونية الأوكرانية 1+1، التي يملكها كالامويسكي، من أكثر القنوات شراءً لأعماله الكوميدية.
إضافةً إلى ما سبق، فلقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو بزيارة أوكرانيا في آب من العام 2019، أي بعد انتخاب زيلينسكي مباشرةً و بعد انقطاع لأكثر من 20 عاماً؛ والحقيقة أنه لا يمكن النظر إليها على أنها زيارة عادية؛ فهذه الزيارة شكّلت مفصلاً تاريخياً خطيراً، والأحداث الجارية الآن في أوكرانيا قد تشرح لنا خلفيات هذه الزيارة؛ فالذهنية الصهيوينة مبنية على النفعية المباشرة، ونتنياهو يتغنّى بانتمائه الصهيوني على كل منبر!
بناءً على ما سبق، فهذه المنظمات، على ما يبدو، مارست و تمارس أعمالاً ذات طبيعة استخباراتية-أمنية ولكنها تتستر بالنشاطات الثقافية-الإجتماعية؛ و أعتقد أن الحقائق السابقة تضعنا على الطريق الصحيح في البحث والتحقيق حول هذه القصة، التي ستتكشف فصولها في المستقبل، حول عمل مكاتب الوكالة اليهودية في روسيا خاصةً وفي الفضاء ما بعد السوفيتي عامةً.
= = = =
*هذه المقالة نشرت أولاً في صحيفة الوسط الجزائرية بتاريخ 31 تموز 2022.
للإطلاع عليها انقر هنا.