بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
تثبت الأيام يوماً بعد آخر أنّ الشعب الفلسطيني الذي عركته الأحداث وطحنته الحروب وعلّمته الخطوب، وخلعت أضراسه النكبات والمحن والتّحديات والسنن، أنه أكثر وعياً وأصوب رأياً من قيادته، وأنه دائماً أكثر حكمةً وأشدّ حرصاً على مصالحه الوطنية، وأكثر تمسّكاً بثوابته التاريخية من مرجعياته الرسمية وفصائله الوطنيّة، وأنه يسبقهم بمراحل ويتقدمهم بسنواتٍ، ويعرف كيف يتّخذ قراره بحكمةٍ ومتى ينفّذ وعده بحزمٍ، فلا تسيخ أقدامه ولا تطير في الفضاء أقواله، ويعرف متى يتعالى بعزةٍ فلا يتهكم به أحد ولا يتطاول عليه آخر، ومتى يظهر عزّته ويتمسّك بكبريائه في مواجهة عدوّه، ويلين ويرقّ في التعامل مع أهله.
وتثبت السنون بلا شكٍ ولا ريبٍ أنه صلبٌ عنيدٌ، ثابتٌ متينٌ، صادقٌ مخلصٌ، واضحٌ مباشرٌ، شفافٌ صريحٌ، يتقدم ولا يتقهقر، ويتمسّك ولا يفرّط، ويتشدّد ولا يلين، ويضحّي ولا يتردّد، ويعطي ولا يبخل، ويحكم قراره ولا يتهوّر، ويحزم أموره ولا يتعثّر، وأنه دائماً مبادرٌ مبتكرٌ، متجددٌ متنوعٌ، لا يجمد على حالٍ ولا يتخشب في موقف، ولا يعدم وسيلةً ولا يشكو عجزاً، وأنه لا يضِلّ الطريق ولا يتوه عن الدرب، ولا تنحرف بوصلته ولا تخطئُ بندقيته، ولا يخون قضيته ولا يقامر بمستقبله، ولا يغامر بوطنه ولا يعرّض مصالحه للخطر.
الفلسطينيون الخمسة عشر مليوناً ويزيد، في الوطن والشتات، وفي مخيمات اللجوء وبلاد الاغتراب، يظهرون دوماً أنهم أهل الحق وأصحاب القضية ومُلَّاك الأرض، وأنهم بحقٍ “أم الولد”، يحرصون على قضيتهم، ويخلصون في الدفاع عن وطنهم، ويبذلون الغالي والنفيس، ويضحون بالمال والولد، والبيت والسكن، في سبيل قضيتهم المقدسة ووطنهم العزيز، ومقدساتهم الدينية وموروثاتهم التاريخية، ويدركون أن قضيتهم التي ضحّى في سبيلها آباؤهم وأجدادهم، تستحق منهم أن يقدموا في سبيلها كل شيءٍ، لتبقى رايتها مرفوعة وصفحتها ناصعة، ومستقبلها مأموناً وحقوقها مضمونة.
الشعب الفلسطيني كله يدرك أنّ عدوّه الأول والوحيد هو العدو الصهيوني، فلا عدوّ غيره، ولا مغتصب للحقوق سواه، فهو وحدَه الذي يجب أن تشرع البنادق في وجهه، وأن تتوجه الأمة لقتاله، وأن تتّحد القوى لمقاومته، وأنّ مَنْ يقاتلْه ترتقِ منزلته ويعلُ قدره، ويحظَ بالشرف الرفيع والدرجة النبيلة، ومنْ يتخلَّ عن قتاله أو ينحرف بسلاحه فإنه يضل الطريق وينتكس، ويخسر نفسه ويرتكس، ويغرق في الفتنة الداخلية وحروبها القذرة ويندثر.
فلا قتال مشروع غير قتال العدو، ولا سلاح شريف يرفع في وجه غيره، ولا قتال محمود على غير جبهته وضد جيشه، وغير ذلك أياً كانت الذرائع والعلل والأسباب والدوافع، فهو زيغٌ وانحراف، وخيانة وتفريط، وهو خسارة مريرة للشعب وقضيته، وتدمير له وشطب لهويته، وفي الوقت نفسه فإنه كسبٌ رخيصٌ للعدو وزبانيته، يفرحهم ويرضيهم، ويسعدهم ويطريهم.
ويدرك الشعب الفلسطيني أن قوته في وحدته، وأن انتصاره في تضامنه وتكاتفه، وأن الخلافات التي تعصف بقواه وفصائله تضعفه وتضرّ به، وتسيء إليه وتشوّه قضيته، وأنها تبعده عن هدفه وتحرفه عن مساره، وأن العدو وحدَه هو المستفيد من حالة الانقسام والتّشرذم التي تشهدها الساحة الفلسطينية، وهو المعني بتعميقها والمستفيد من استمرارها، وأن المعطلين للمصالحة علموا أو جهلوا، فإنهم يخدمون أهدافه ويحققون مصالحه، ويضرون بشعبهم ويلحقون أبلغ الضرر بقضيتهم، التي شوّهها الانقسام، وأطفأ بريقها الاختلاف، ودفع الكثير من المحبين والمؤيّدين لها للانفضاض من حولها والتخلي عنها.
ويعلم الشعب الفلسطيني كله أن القوة العسكرية والمقاومة المسلحة هي السبيل الأنجع والأنسب، والأسلوب الأفضل والأجدى في مواجهة العدو الصهيوني والتصدي له، فهو لا يعترف بأي وسيلة نضالية أخرى ولا يتأثر بها، ولا يهتز كيانه ولا يضطرب بنيانه أو يقلق مستوطنوه ويخاف جنوده بغير القوة العسكرية القاهرة، والعمليات النوعية التي تؤلمه وتوجعه، وتصيبه وتنال منه، وتلحق به خسائر في الأرواح تبكيه، وتفكك جبهته الداخلية وتضعف روحه المعنوية، فهذا العدو لا يرعوي بغير القوة، ولا يتراجع دون ألم، ولا ينكفئ إلا إذا أدرك فداحة الثمن وارتفاع الكلفة.
كما يدرك الشعب الفلسطيني أن قيادته لا تمثّله، ولا تنطق باسمه ولا تنوب عنه، ولا تشعر به ولا تهتم بحاجته، ولا تعنيها مصالحه لا يهمّها مستقبله، ولا تشغلها مطالبه ولا تقلقها شكواه، فهي في وادٍ وهو في وادٍ آخر، وأن جُلّ همها مصالحها ومنافعها، وامتيازاتها ومكاسبها، ونفسها ومستقبل أولادها، ومسكنها المريح وبيتها المضاء وخدماتها الشخصية، وهي تقاتل من أجل مكانتها ومنصبها، وتتنازل للعدو في سبيل بطاقةٍ أو تصريح مرورٍ، وتغضب إذا مُسّت مصالحها أو سحبت بطاقتها أو تعطلت مرافقها، وتقيم الدنيا ولا تقعدها إذا تعذّر سفرها أو طال انتظارها، أو تعاملت السلطات معها تعاملها مع شعبها.
يشعر الشعب الفلسطيني بأدوائه ومشاكله، ويعرف دواءه وعلاجه، ويدرك حقيقة أزماته وأسباب الانقسام، ويعرف سبل الخروج ومعارج الخلاص، ويعتقد أن العيب ليس فيه ولا في شتاته، وإنما في هيئاته وقيادته، ومؤسساته وهياكله، وسلطاته وفصائله، وأنها جميعها في حاجةٍ إلى التغيير والاستبدال، لا إلا الصيانة والإصلاح، فقد انتهى زمانها وبطل علاجها، ولم تعد قادرة على إدارة الأزمة وقيادة المرحلة والتصدي للمهمة، وقد بات لزاماً عليها إما التوبة والإنابة والانكفاء إلى الشعب والعودة إلى الأصول، و إما التخلي والتنحي، والابتعاد عن المشهد ومغادرة المنصب، وترك الشعب يختار بنفسه وينتقي بإرادته، فهو الأعلم بحاجته والأدرى بمصالحه، والأصدق في موقفه والأخلص لقضيته.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً