بقلم الدكتور آصف ملحم*
منذ العام 2014، والروبل الروسي يعاني ترجّحاتٍ شديدةً، بسبب الأحداث السياسية التي عصفت بأوكرانيا في ذلك العام، وما رافقها من عقوبات غربيّة على روسيا، الأمر الذي أحدث تغيراتٍ كبيرةً في العلاقات الاقتصادية بين روسيا وباقي دول العالم.
بعد قيام العملية العسكرية، انخفض سعر صرف الروبل بشكل كبير أمام الدولار و اليورو؛ فقد بلغا قيمتهما التاريخية القصوى في شهر آذار 2022، أي 121 روبلاً لكل دولار.
في الأسابيع الأخيرة، بدأ سعر صرف الروبل بالانخفاض بشكل ملحوظ، إلى أن وصل إلى حاجز الـ 100 روبلٍ لكل دولار، وهذه المرة الأولى منذ آذار العام الماضي (انظر الشكل).
يشير بعض الخبراء إلى أنّ السبب في ذلك هو تمرد بريغوجين؛ فلقد استشعر بعض المستثمرين خطر عدم استقرار الأوضاع مما دفعهم إلى إخراج أموالهم من روسيا، أما المواطنون فقد سارعوا إلى استبدال مدخراتهم بالعملات الأجنبية الأخرى خوفاً من الأيام القادمة. في الواقع هذا التقدير غير صحيح؛ فبعد أسبوع على تمرّد بريغوجين عاد سعر الصرف إلى الاستقرار من جديد.
خبراءُ آخرون يرون أنّ هذه الظاهرة طبيعية، وتترافق مع قيام بعض الشركات الأجنبية ببيع أعمالها في روسيا، كما حدث الأمر مع شركة Shell في الربيع الماضي. ولكن وزير المالية الروسي (أنطون سيلوانوف) في مقابلة مع وكالة تاس الروسية، أكّد أنه يوجد قيود على خروج أموال الشركات التي تغادر روسيا، فحجم الأموال التي يجب أخراجها من روسيا لا يجب أن يتجاوز المليار دولار في الشهر.
بعيداً عن هذه الآراء، لو تأمّلنا المنحني البياني المرفق، فإننا نلاحظ انخفاضاً مطّرداً للروبل مقابل اليورو والدولار، منذ حزيران السنة الماضية حتى اليوم؛ لذلك فإننا نستبعد أثر الأحداث الطارئة، السياسية والاقتصادية، على سعر الصرف. الأرجح أن ذلك سياسة مالية مدروسة بعناية من قبل الحكومة الروسية و المصرف المركزي الروسي.
كتب مكسيم أريشكين، مساعد الرئيس الروسي، في موقع وكالة تاس: (الروبل الضعيف يؤدي إلى تعقيد عمليات إعادة هيكلة الاقتصاد، ويؤثر سلباً على الدخل الحقيقي للمواطن. لذلك فإن الروبل القوي سيعود بالفائدة على الاقتصاد الروسي). ووفقاً لرأي أريشكين، فإن أحد أهم أسباب إضعاف الروبل هي السياسة التسليفية السهلة. لذلك، يملك المصرف المركزي الروسي كل الأدوات اللازمة لمعالجة الوضع، حسب رأي أريشكين.
المصرف المركزي الروسي أحال السبب إلى ما سماه (ديناميكية التوازن في التجارة الخارجية)!
السيد ألكسي زابوتكين، نائب رئيس المصرف المركزي، صرّح بأنه لن يؤدي إضعاف الروبل إلى أي مخاطر على النظام المالي للمصرف المركزي. و أكّد أنه لا بد من تحاشي تلك الحالات التي تؤدي إلى زيادة اضطراب الأسواق بسبب بعض العمليات المالية. المصرف المركزي الروسي بدوره أكّد أن سعر صرف الروبل ما زال عائماً، أي أنه يعتمد على العرض والطلب.
في الحقيقة، إن السيد زابوتكين يشير في كلامه إلى إعلان المصرف المركزي الروسي أنه ابتداءً من 10 آب الجاري حتى نهاية العام سيتوقف عن شراء العملات الأجنبية بأسعار معقولة لوزارة المالية، والحديث هنا يدور عن شراء اليوان الصيني فقط؛ فهذه العملية لم تؤثر على منحني انخفاض سعر صرف الروبل.
في الواقع، إن الميزان التجاري الروسي إيجابي، فقيمة الصادرات أعلى من قيمة الواردات، ولكن هذا الفرق ليس كبيراً مقارنة مع سنة 2022؛ و يعود السبب في ذلك إلى انخفاض أسعار حوامل الطاقة و القيود المفروضة على التصدير من قبل الدول الغربية.
بناءً على ما تقدم، فإن السبب الرئيسي لإضعاف الروبل هو الحصول على إيرادات أكبر بالعملة المحلية مع وجود إيرادات أقل بالعملات الأجنبية، بسبب انخفاض التصدير. لذلك، فإن روسيا تتجه نحو تعويم عملتها، وخلال هذه الفترة الانتقالية؛ أي من فترة البدء بالتعويم حتى استقرار السوق، تكون الأسواق عادةً مضطربة. لذلك فإن ما يحدث هو سياسة مالية روسية مدروسة وليست تغيرات عشوائية مرتبطة بالأحداث السياسية التي تعصف بالعالم. أما السؤال عن المدى الزمني الذي ستستغرقه الفترة الانتقالية فمن الصعب الإجابة عليه الآن.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً