بقلم الأستاذ محمد نورالدين فكيرين*
في أرضٍ تمتد فيها الرمال كسجادٍ ذهبي، وتحتضن بحراً يروي قصص أممٍ تتابعت عليها، نقف أمام مشهدٍ سياسيٍ ليبيٍّ يفيض بالتناقضات والتحديات. بين أنقاض الماضي وأطلال الحاضر، تتجلّى صورةٌ قاتمةٌ للوضع الراهن، حيث تتشابك خيوط المصالح وتتعارض الأهواء.
لوحةٌ معقدةٌ وألوانٌ متنافرة
ليبيا اليوم ليست كما كانت بالأمس. فبعد أن أسقطت عاصفة الربيع العربي صرح القذافي الشاهق، ظنَّ الجميع أن البلاد قد بدأت تسير على درب الحرية والديمقراطية. لكن، ككل الفصول، كانت للربيع نهايةٌ. انتهى بتسليم البلاد إلى شتاءٍ قارس، حيث غابت شمس الأمان وسادت عواصف الفوضى.
الحكومة الحالية، حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تواجه تحدياتٍ جمّةً في بسط نفوذها على كامل التراب الليبي. بين ترقُّب الشعب وتحفُّز المليشيات، تبدو القيادة كمن يسير على جمرٍ حار، تخشى السقوط في أي لحظة.
فوضى السلاح وهيبة الدولة
من أكبر الإشكاليات التي تواجه ليبيا اليوم، انتشار السلاح بين أيدي المليشيات والجماعات المسلحة. هذا الانتشار العشوائي حوَّلَ البلاد إلى مسرحٍ للفوضى، حيث لا قانون ولا نظام. حكومات تتبدل، وقادة يتغيرون، لكن السلاح يبقى السيد الأوحد، يفرض كلمته بسوط القوة.
إن الهيبة التي يجب أن تتمتع بها الدولة غابت في ظل هذه الفوضى. فالسلطة الحقيقية ليست في يد الحكومة المُنتخَبة، بل في يد من يمتلك القوة النارية ويستطيع بسط نفوذه على الأرض. هذه الفوضى الأمنية تعيق أي جهود لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار.
ثروات البلاد بين أطماع الداخل والخارج
ليبيا، بأراضيها الشاسعة وثرواتها النفطية الهائلة، كانت لتكون نعمة لأبنائها، لكنها تحوّلت إلى نقمة تفتح شهية الطامعين. بين الأطماع الداخلية من قوى متنازعة لا تكفُّ عن السعي للسيطرة على منابع النفط، والأطماع الخارجية من دول تسعى لتأمين مصالحها على حساب استقرار ليبيا، نجد البلاد تتخبّط في دوامةٍ لا تنتهي من الصراعات.
السيادة الوطنية: الأركان المهددة
لم يكن الأمر أكثر وضوحاً من الآن: السيادة الوطنية في ليبيا قد تعرّضت لتحديات جسيمة. فالأرض التي كانت تتغنى يوماً بقرارها المستقل، تجد نفسها اليوم رهينةً لعدد من القوى الإقليمية والدولية. وتدخّلات خارجية أصبحت جزءاً من نسيج السياسة الليبية، حيث تتوزع ولاءات الأطراف المتنازعة بين دعم دولي وإقليمي متباين. وفي خضم هذا الصراع، تبرز صورة مؤلمة عن السيادة المهددة، التي تتأرجح بين أيدٍ متعددة، فتجعل من استقلال القرار الوطني حلماً بعيد المنال.
الدور الدولي بين النفاق والنفعية
المجتمع الدولي، بقواه العظمى ومنظماته، يلعب دوراً مزدوجاً في المشهد الليبي. فبين تصريحات الدعم ومؤتمرات السلام، نجد الأفعال تروي قصةً أخرى. تدخلاتٌ عسكرية هنا، وصفقات سلاح هناك، تحالفاتٌ مبنية على المصالح لا المبادئ، تجعل من ليبيا ساحة حربٍ بالوكالة.
لقد بات الليبيون يدركون أن الحل لن يأتي من الخارج. فالدول الكبرى تبحث عن مصالحها أولاً وأخيراً، ولو كان ذلك على حساب دماء الأبرياء ومعاناة الشعوب. هذا الوعي يجب أن يكون بداية الطريق نحو استعادة السيادة الليبية.
التغيير: بين الأمل والانتكاس
الأمل في التغيير كان قد نبت بعد سنوات من الاستبداد، إذ جاء عام 2011 ليحمل معه آمالاً عريضة في بناء دولة جديدة. ولكن سرعان ما تلاشى ذلك الأمل في غياهب الفوضى والاقتتال الداخلي. فبعد أربعة عشر عاماً من الثورة، نرى أنفسنا أمام مشهد سياسي مشوّه، تتنازع فيه القوى على السلطة، وتُستنزف فيه موارد البلاد دون أفق واضح للاستقرار. التحالفات المتغيرة، الصراعات المستمرة، والفساد المستشري، كلها عوامل تضعف من قدرة البلاد على النهوض، وتحول دون بناء مؤسسات قوية متماسكة.
المصالحة الوطنية: المفتاح المفقود
أمام هذا المشهد المليء بالانقسام والتباين، تبرز المصالحة الوطنية كطوق نجاة لا بديل له. فهي ليست مجرد شعار، بل ضرورة حيوية لإنقاذ ليبيا من أزماتها العميقة. إن معالجة ملف المصالحة الوطنية تتطلب أكثر من مجرّد مفاوضات، فهي تتطلّب استجابة حقيقية لمطالب جميع الأطراف، وجسوراً من الثقة لبناء أرضية صلبة للسلام. المصالحة الوطنية، إذاً، ليست ترفاً، بل هي العمود الفقري الذي يستند إليه بناء ليبيا المستقبل. لذا، فإن التوصل إلى توافق حقيقي وشامل بين الفرقاء هو السبيل الوحيد لإعادة اللحمة إلى الشعب الليبي، واستعادة استقرار البلاد.
إن بناء ليبيا الجديدة يتطلب جهوداً مضنية، وتضحياتٍ جسيمة. يجب أن تكون هناك إرادة سياسية حقيقية، نابعة من رغبة صادقة في إنهاء معاناة الشعب وتحقيق الاستقرار. كما يتطلب الأمر دعماً دولياً مخلصاً، يركّز على بناء المؤسسات وتعزيز القدرات الوطنية.
الخاتمة
ليبيا اليوم تقف على مفترق طرقٍ تاريخي، بين ماضٍ مليء بالصراعات وحاضرٍ مليء بالتحديات، تظل هنالك فرصة لبناء مستقبلٍ أفضل. على الليبيين أن يدركوا أن الحل لن يأتي من الخارج، بل يجب أن ينبع من إرادتهم وعزمهم على تحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء دولتهم.
في النهاية، لابد من التذكير بأن ليبيا تستحق الأفضل. هذا البلد الغني بتاريخه وثقافته وثرواته، يجب أن يكون وطناً يسوده السلام والاستقرار، حيث يتمتع أبناؤه بالحرية والكرامة. لنحقق هذا الحلم، يجب أن نعمل جميعاً يداً بيد، متجاوزين خلافاتنا، ومتّحدين في سبيل مستقبلٍ مشرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ محمد نورالدين فكيرين – كاتب صحفي ليبي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً