بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
يمكن وصف الخراب الذي حلّ بالعالم العربي منذ عام 2011، بأنصاف ثورات، واحتجاجات فاقدة للبوصلة، لأنها افتقدت لرؤية بديلة واضحة تحدد المسار الذي يمكن اتباعه من أجل التغيير. ولأنها كانت ناقصة الشرعية فيما بعد، حيث لم تتمكن من الاستيلاء على كل مفاصل الدولة، حتى يمكنها القطع نهائياً مع الأنظمة الشمولية السابقة. لذلك كانت مآلاتها هشّة ويمكن أن ترتد بالسهولة نفسها التي رافقت نجاحها الجماهيري الكبير، بشكل سلبي وربما العودة لمستنقع الاستبداد بأشكال جديدة.
بعض الدول خرجت من هذه الفوضى بأقل الأضرار، لكنها ظلت تعيش تناقضاً عميقاً أبقاها في دائرة الهشاشة ويسهّل إمكانية عودة الاحتجاجات، تعرف هذه المجتمعات تناقضات بين حياة سياسية متنوعة وبين عقلية سياسية تربّت في محيط الاستبداد والشمولية بكل أبعاده السياسية والدينية والثقافية، عقليات ترفض التعدد والحوار وتسعى الى إعطاء الهاجس الأمني أولوية قصوى بعيداً عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فهي عقليات متحجرة ترى أن السلطة مكسبٌ شرعي ولا أحد غيرها يحمي البلاد والعباد، وليس حكماً مؤقتاً فقط، بعض السياسيون جعلوه مكسباً يجب الحفاظ عليه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لاستدامته، مما يجعل كل الخصوم السياسيين وحتى الجيران أعداء.
فالتعددية الحزبية وتنوعها، لا يؤسس بالضرورة الى انتقال ديمقراطي بشكل كبير إن لم يصاحبه وعي وثقافة ديمقراطية، تحترم الاختلاف في الرأي والحق في الاختلاف والمساواة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون. كما أن نجاح أي تجربة ديمقراطية لا يُختزَل في انتخابات حرة ومشاركة الأحزاب بكل اختلافاتها، بل هو رهين عقد اجتماعي يتضمن شروطاً عدة لضمان نجاح التجربة، كاستقلالية مؤسسات الدولة واحترام الدستور والاستقرار السياسي؛ والتجربة التونسية خير دليل.
قد يرى البعض بأن بعض المجتمعات تفادت الحروب الأهلية والفوضى، لكنها للأسف عادت إلى دائرة الاستبداد، وهي أنظمة قد تصبح مع مرور الأعوام هشّة يسهل الانقلاب عليها أو الدخول في فوضى أخرى.
بعض الدول العربية، تعيش منذ خريف 2011، أخطاءً استراتيجية كبيرة، تعبّر عن قصر نظرها وعدم نضجها، نتيجة غياب التجربة ومحدودية الثقافة السياسية في التعاطي مع الآخر سواء داخلياً أو خارجياً، كما تتميز أيضاً بتعصبها الإيديولوجي الشمولي. مما أدى إلى استفحال الأزمات الاقتصادية وتعميق المشاكل الاجتماعية التي كانت في الأصل سبباً في الخراب السابق، مما يجعل هذه الأنظمة تدور في فلك مغلق.
بعض الأنظمة، غضّت البصر عن التنمية وتطور مجتمعاتها، واستثمرت في التحوّل إلى صراع سياسي مفتعل ومناكفات هامشية، لا علاقة لها بأولويات البلد والشعب، وأمام كثرة المشاكل الداخلية وعجز بعض الأنظمة عن تلبية الحد الأدنى من العيش الكريم، تواصل الأنظمة الشمولية الهروب نحو الخارج للاستثمار في العداءات الوهمية في استغباء كبير للشعوب والقفز عن مطالبها.
هذا حال معظم الدول العربية، باستثناء المملكات التي حافظت على استقرارها السياسي، واستثمرت في تطوير بُناها التحتية واقتصاداتها، والاستثمار أيضاً في الفرد والاستثمار في الاستقرار، لأنه الضامن الوحيد لنجاح المشاريع والرؤى الاقتصادية والتنموية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الإفريقية في صحيفة الحدث الإفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً