بقلم الأستاذ علي سليمان*
أعلنت قناة MBC السعودية، منذ مدة قصيرة، عرضَ مسلسل تاريخي يتحدّث عن شخصية معاوية بن أبي سفيان في شهر رمضان القادم. تدور أحداث المسلسل حول شخصية الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان وفترة الفتنة الكبرى في التاريخ الاسلامي، والصراعات حول تولّي الخلافة وماتبع ذلك من حروب دامية ونزاعات وانقسامات في الصف الإسلامي.
تم تصوير العمل في تونس وهو من إخراج طارق العريان، بتكلفة إنتاجية غير مسبوقة في المؤسسات الإنتاجية العربية؛ إذ فاقت مئة مليون دولار!
وما إن عرضت القناة السعودية إعلانها الترويجي الأول عن المسلسل، حتى انبرى كثيرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى تقييمه وانقسموا ما بين مؤيّد ومعارض للعمل قبل عرضه.
عبّر طيف واسع من الساسة ورجال الدين عن استيائهم من إنتاج هكذا عمل، ودعوا القائمين على القناة إلى التراجع عن عرضه لأنه قد يسبب بلبلةً في الشارع الإسلامي من مشارق الأرض حتى مغاربها.
من بين التصريحات المندّدة بإيقاف هذا العمل جاء بيان رجل الدين العراقي وزعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، الذي اعتبر أنّ (بثّ مثل هذه المسلسلات مخالف للسياسات الجديدة المعتدلة التي انتهجتها السعودية) على حد قوله. وشدّد الصدر في بيانه على تمسّكه بوحدة الصف الإسلامي قائلا إن: (الجميع يعرف نبذه للطائفية إلا أن ذلك لا يعني القبول بالمساواة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان أو التقريب بينهما بمسلسل درامي يزيف التاريخ ويحيد عن الحقائق) حسب قوله.
بما أننا نتحدّث عن الفتنة الطائفية التي من الممكن أن تثيرها هكذا أعمال يجدر بنا الذكر أن قناة (الشعائر) العراقية قامت برصد مبلغ كبير لإنتاج فيلم إسلامي بعنوان (شجاعة أبي لؤلؤة المجوسي) وهو الشخص الذي قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان مسلسل معاوية بن أبي سفيان. وهذا باعتقادنا ليس صدفةً بل هو بمثابة رد استفزازي على مؤيدي إنتاج مسلسل معاوية.
في هذل السياق، يقول الصدر: (إن كلا المسلسلين باطل ومثير للفتنة، فمعاوية لا يمثّل السنّة ولا أبو لؤلؤة يمثّل الشيعة، داعياً إلى منع عرض المسلسلين). إلا أن ذلك لم ينهِ حالة الجدل حول المعايير التي يجب اتّباعها في تجسيد الشخصيات التاريخية.
والأسئلة التي تبرز على هذه الخلفية:
هل هذا الجدل في محلّه، أم أنه سابق لأوانه؟
ما الجدوى من إنتاج مسلسل “معاوية” ؟
ما الذي سيقدمه المسلسل والدماء تملأ المكان والزمان الذي عاش فيهما؟
هناك من يتّفق مع الصدر بمنع عرضه؛ فمنهم من يرى أن المسلسل المرتقب لن يكون حيادياً بل سينحاز لوجهة نظر دينية وسياسية على حساب أخرى، ترى في معاوية رمزاً للمكيافيللية السياسية، في حين تراه أخرى صحابياً جليلاً أعزّ الإسلام والمسلمين.
ومنهم من يصف العمل بالفتنوي متوقعاً أنه سيزيد الحساسيات والتوتر بتطرُّقه الى فترة حرجة من التاريخ الإسلامي. في حين يردّ آخرون: لا تُدخِلوا العمل في لعبة المحاور والاستقطاب، بدعوى أن أهداف الحملة على هذا المسلسل سياسية بحتة تسعى للتجييش الشعبوي ضد فئة معينة.
بينما هناك من يصنف المسلسل بأنه مجرد عمل درامي يندرج تحت خانة الفنتازيا التاريخية ويدعون لتقييمه من منظور فني بحت.
و يأمل آخرون بأن يساهم تجسيد الشخصيات التاريخية الجدلية بنزع القداسة والبحث بعقلانية في تفاصيل الحقب التاريخية بعيداً عن الأساطير والتأويلات الدينية المتباينة والإقرار بأن كل حقبة في التاريخ الاسلامي كانت حقبة صراع على السلطة، وبأن الصحابة كانوا بشراً عاديين لهم طموحاتهم السياسية وأحلامهم الشخصية.
معاوية من خارج الصندوق:
تطرّق الكثير من المفكرين العرب بحياد تام لشخصية معاوية، وكان من الواضح لهم، لا بل أجمعوا على أنه رجل سياسي بامتياز، وبعيد كل البعد عن زهد الصحابة المتخيّل في أذهان مُحبيه، وبعيد أيضاً عن الدموية والخيانة في أذهان كارهيه.
فلقد رأى فيه الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (نقد العقل السياسي العربي) أول من تصدى لإشكالية فصل الدين عن الدولة، فكان ذا منزع ليبرالي نفعي؛ لم يهتم للثوابت الدينية السائدة بل تجاوزها مداورةً إلى إقامة دولة علمانية لم يسبقه إليها أحد آنذاك.
كما أشار المفكر السوري أدونيس في أحد مقالاته عن العلمانية، بأن معاوية أول من خاض هذه التجربة ونجح بها وأقام دولة مدنية متجاوزاً كل المطالب الطوباوية والمثالية بإقامة حكم اسلامي، بدهاء سياسي وحس عملي مجرّد عن التقديس السائد، ممثلاً بذلك انقلاباً ينطوي على جرأة فكرية وسياسية قلَّ نظيرها.
أما الكاتب محمود عباس العقاد، فلقد فنّد حقبة معاوية وشخصيته تفنيداً عقلانياً دقيقاً في كتابه الشهير(معاوية بن أبي سفيان في الميزان)، و خلص إلى الاستنتاج بأنّ معاوية شخصية سياسية استثنائية لها مالها وعليها ماعليها.
من وجهة نظرنا، نرى:
أن أعمال السير الذاتية العربية والإسلامية كافة قد وقعت في فخ التقديس والمغالاة، وأنها ركّزت فقط على الجوانب الإيجابية في الشخصيات المتناولة، بل إن صُنّاع الدراما استخدموا جرعاتٍ إضافيةً من الخيال كي يقوموا باسقاطات سياسية تخدم جهة معينة على حساب جهة أخرى.
ننوه أيضاً – رغم قناعتنا التامة بأن الخلاف الدائر حول مسألة مرَّ عليها 1400 عاماً أمر مثير للخيبة، خاصةً في هذه الأجواء المتوترة – أن الخوض في تاريخ الشخصيات المؤثرة في بواكير الإسلام قد يغذّي الخلافات المذهبية وينشر المغالطات التاريخية ويوقظ أحقاد الحقب الغابرة، التي مازالت تنزّ صديداً من جسد هذه الأمة.
ونشير أيضاً إلى أن الرابح الأكبر من هذه الخلافات هو الجهات التي تريد تعميقها، مرتكزةً على مبدأ (فرّق تسُد).
ويبدو أنّ شركاتِ الإنتاج تمارس نوعاً من الصّمت المريب إزاء هذه الانتقادات الموجّهة إليها، فهي تعلم جيداً أن تصاعد هذا الجدل في الشارع العربي هو دعاية سلبية تجذب المشاهدين فحسب!
= = = = =
*الأستاذ علي سليمان – كاتب سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً