بقلم الدكتور آصف ملحم*
عادةً ما يطلق على مقولة ديكارت هذه اسم الكوجيتو الديكارتي، ولقد وردت هذه المقولة بعدة صيغ مختلفة، كما طرأت عليها العديد من التحويرات، سنحاول المحافظة على الصيغ الأصلية لهذه المقولة، أهم هذه الصيغ:
1-أنا أشك وأعلم أنني أشك، وبالتالي أنا أفكر، وما دمت أفكر، فأنا موجود.
2-أنا أشك، فهل أشك بأنني أمارس الشك …
باللاتينية تصبح صيغة الكوجيتو الديكارتي كما يلي:
Cogito ergo sum
بالرغم من أنه قد مضى زمن طويل على ظهور الكوجيتو الديكارتي، وبالرغم من أن العديد من الباحثين تناوله في دراساته، إلا أنه لا يزال هناك بعض الجوانب التي لم يتم بحثها. سنحاول، في مقالتنا هذه، إبراز هذه الجوانب ومناقشتها على المستويين المنطقي و المعرفي؛ وشيئاً فشيئاً سنستكشف التناقضات والإشكاليات التي تقود إليها.
لو افترضنا أنه لدينا كائن ما، وقيل لنا بأن هذا الكائن يمارس نشاطاً ما أو يقوم بفعلٍ ما، وأطلقنا على هذا النشاط أو الفعل اسماً ما؛ في حالتنا الكائن هو الإنسان، وهذا الكائن يمارس نشاطاً اسمه (الشك)، ألا يصبح السؤال التالي:
ما طبيعة هذا النشاط، أو ماهي ماهيته، و ما هي آلياته؟
مُعتَبَراً ومُحِقّاً؟!
إذ كيف لنا أن نعرف بأنّ كائناً آخرَ يقوم بنشاط أو فعل مماثل ما لم نعلم طبيعة أو ماهية هذا النوع من النشاطات أو الأفعال؟!
ثم، كيف نميز هذا النوع من النشاط عن غيره من النشاطات أو الأفعال الأخرى؟
فافتراض تمتُّع الكائن آنف الذكر بالقدرة على القيام بالنشاط (آ) لا ينفي إمكانية قدرته على القيام بالنشاطات (ب) أو (ج) أو (د) … الخ.
بناءً على ذلك يصبح السؤال الآتي، في نظري، قانونياً:
ما هو الشك الذي مارسه ديكارت، أو بالأحرى ما هو الشك من وجهة نظر ديكارت؟
جميع الدراسات والأبحاث، التي اطّلعتُ عليها حول هذا الموضوع، تؤكد أن ديكارت كان (يشك) في (وجود) ما يحيط به من أشياء؛ أي أن هذه الأشياء تتمتع بالأصل بصفة (الوجود)، وقام ديكارت بإقحام نفسه في علاقة معها لكي يمارس نشاطاً، سماه (الشك)، وظيفة النشاط هذا سلبها صفة (الوجود)، و لكي يعيد ضم (الوجود) إليها قام بنشاطٍ ثانٍ، سماه (التفكير) أو (العلم بالشك) أو وفق عبارته (أعلم بأني أشك).
على هذه الخلفية، لا بد من طرح الأسئلة الآتية:
ماهي طبيعة العلاقة التي ربطت ديكارت بالأشياء المحيطة، لكي يمنح نفسه الحق بسلب وضم (الوجود) إليها؟
وهل يمكن أن نسلب (الوجود) عن شيء ما، هو بالأصل يتمتع به بشكل مستقل عنا؟
وهل يمكن أن نسلب (صفةً) ما عن (شيء) ما عقلياً؟
وما هي الحالة التي سيكون عليها ذلك الشيء بعد سلبه تلك الصفة؟
أليس افتراضي بأن ذلك الشيء يتمتع بتلك (الصفة) كافٍ ليمنحني اليقين بتمتعه بتلك (الصفة)؟
قد يقول قائل: إن محاكمة ديكارت ليست لسلب الوجود عن الأشياء، فعملية السلب هي عملية عقلية صرفة، والسلب لم يقع على الأشياء حقيقةً. في مثل هذه الحالة، من حقنا أن نطرح السؤال:
هل القضية شكل من أشكال (القلق النفسي)، ومحاكمة ديكارت هذه ليست سوى تسكين هذا الضجيج النفسي الداخلي فحسب؟!
وبالمتابعة، فإن عملية (سلب الوجود) هذه تستمر حتى يصل ديكارت إلى الذات السالبة نفسها، فهو يسلب عن نفسه (الوجود) أيضاً، فهل يحق لديكارت بعدها أن يقول: أنا أعلم بأنني أشك؟
إذ كيف يستقيم الحالان: الشك والعلم؟ أو بالأحرى كيف يمكننا أن نصدق شخصاً يشك في وجوده، ومن ثم يخبرنا بأنه يمارس علماً ما؟
ولو أعدنا صياغة عبارة ديكارت بطريقة أخرى، فإنها ستصبح على الشكل: أنا لا أعلم يقيناً إذا كنت موجوداً أو لا، ولكنني أعلم بأنني لا أعلم يقيناً إذا كنت موجوداً أو لا. أي أننا أمام (كائن ممكن الوجود) بالتحديد والتعريف، ومع ذلك يمنح نفسه صفة (واجبية الوجود) لمجرد علمه بأنه (ممكن الوجود). أعتقد أننا في هذه الحالة أمام تناقض واضح وصريح!
قد يحل الكوجيتو الديكارتي إشكالية إثبات الوجود الذاتي، أي أنها تقودنا إلى إثبات الوجود (لأنفسنا و فقط أمام أنفسنا)، فنصبح على قناعة أو على يقين بأننا موجودون!
ولكن، ماذا عن وجود الأشياء والكائنات الأخرى؟
في الواقع، الفرضية الأساسية التي انطلق منها ديكارت هي أن ذلك الكائن كان يمارس (الشك)، والحقيقة أن الأشياء والكائنات والأفعال لا تدل إلا على ذواتها، فالشك دليل على الشك فقط، وأي محاولة لإدخال شيء أو كائن أو فعل للاستدلال عليها تستدعي السؤال: ما هو هذا الشيء أو الكائن أو الفعل الجديد، وما علاقته بالشيء الأول؟
لذلك، كيف علم ديكارت بأنه يمارس هذا النوع من النشاط الذي سميناه (الشك)، أو باختصار كيف علم ديكارت بأنه يشك؟
فهل الذات الشاكة تختلف عن الذات العالمة؟ أو بالأحرى، هل تختلف الذات التي مارست (الشك) عن الذات التي (علمت) بذلك (الشك)؟
فإذا كانت الذات نفسها قامت بالفعلين معاً، فالسؤال عن كيفية استدلالي على فعلٍ بآخر يبقى قائماً.
أما إذا كان لدينا ذاتان قامتا بفعلين مختلفين، فنحن أمام معضلة حقيقية؛ فذات مارست (الشك) وذات مارست (العلم) … وماذا بعد؟ فمن منهما مارست (التفكير)، وبالتالي من منهما ستحمل صفة الوجود؟!
قد يعتقد القارئ الكريم بأنني، بهذا الجدل، أمارس السفسطة؛ ولكن يكفي بأن أذكّره بأن الأفعال المختلفة الصادرة عن الإنسان تقوم بها أعضاء (أو أجهزة) مختلفة لكي يدرك أهمية هذه المناقشة! وفي الحقيقة، تعود محاولة تعريف هوية الإنسان بأنها طريقة أو أداة أو جهاز تنظيم، وهذه الأدوات والأجهزة هي من أكسبته الوجود كإنسان، إلى بدايات القرن الماضي؛ ولعالم النفس السوفيتي الكبير ليڤ ڤيگوتسكي Lev Vygotsky الفضل الكبير بإدخال هذه النظرية؛ و هي في الحقيقة محاولة دمج مناهج الماركسية بعلم النفس. وهي تنظر إلى الإنسان على أنه كائن يصنع ويبني أدوات ومعدات تطوره بنفسه، وهذه المعدات ليست خارجية بل هي داخلية أيضاً، وبالتالي فالإنسان بما هو إنسان، أو كما نراه إنساناً، هو نتيجة لتعاضد عمل هذه الأجهزة. ولقد بيّن ڤيگوتسكي بأن الوظائف النفسية العليا متموضعة في وحدات بنيوية للدماغ.
لذلك نلاحظ أن بعض الفلاسفة اقترح بدائل أخرى للكوجيتو الديكارتي، كالصيغة التي اقترحها ماري دي بيران Maine de Biran، وهو فيلسوف فرنسي عاش بين عامي (1766-1824):
أنا أرغب إذاً أنا موجود!
والتي تصبح باللاتينية:
Volo ergo sum
على هذه الخلفية، ألا يمكننا النظر إلى جميع المشاعر الإنسانية بنفس الطريقة وبالتالي تصبح الأقوال التالية:
أنا أرى، وأعلم أنني أرى، إذاً أنا موجود؛
أنا أحب، وأعلم أنني أحب، إذاً أنا موجود؛
… وغيرها!
بدائل قانونية للكوجيتو الديكارتي أيضاً؟
على هذه الخلفية، و وفقاً للتصور السابق، يحضرني السؤال: هل يمكن الاستدلال على الكل بأحد أجزائه؟ أو بالأحرى، هل يمكن الاستدلال على كائن ما، مؤلف من مجموعة من الأجهزة بنشاط أحد هذه الأجهزة؟
وللتوضيح سأضرب مثالاً؛ لنأحذ السيارة، فالجميع يعرف مكونات وأجهزة السيارة، فكل جهاز من أجهزتها يقوم بفعل ونشاط ما! فهل مشاهدة انبعاث الدخان من عادمٍ ما أو مشاهدة ضوء من مصباح ما يشبه مصباح السيارة، دليل على وجود السيارة؟!
لو سلمنا جدلاً بأن ذاتاً واحدةً تمارس الشك وتعلم بأنها تمارس الشك، الذي سميناه تفكيراً، فهل هذا النشاط كافٍ للاستدلال على وجودها؟
وهنا تبرز الأسئلة:
لماذا لا يمكن الاستدلال على شيءٍ ما مالم يقم بنشاطٍ ما؟
وهل هذا يعني بأن الأشياء التي لا يصدر عنها أيُّ فعل لا تملك حظاً في الوجود؟
وهل نشاط (التفكير) هو الوحيد الذي يدل على الوجود؟
وهل توقف الإنسان عن التفكير سيفقده صفة الوجود؟
فهل نفي إمكانية التفكير تنفي الوجود؟
وهل هذا يقتضي بأن جميع الموجودات تفكر؟
وكيف لي أن أكون على يقين بأنني أفكر؟
وماذا يعني أنني أفكر؟
ولماذا يفكر الإنسان؟
ولو عدنا إلى الصيغة الثانية للكوجيتو الديكارتي، فاليقين الوحيد الذي توصل إليه ديكارت هو أنه يستطيع ممارسة (الشك) فقط، وبالتالي ما الفرق بين العبارات الآتية: أنا أشك – أنا على يقين بأنني أشك – أنا أعلم بأنني أشك؟
فهل أتت العبارتان الأخيرتان للتأكيد على أنه يمارس (الشك)؟
وبالتالي، أليست محاولة التأكيد على أنني أشك هو (شك) في هذا (الشك) أيضاً؟ وبالتالي نحن أمام شكل من أشكال اليقين وهو (الشك في الشك)؟!
علاوة على ذلك، بما أن المعطى اليقيني الوحيد هو (الشك)، وبالتالي فالممارسة الوحيدة التي يمكن إجراؤها على ذلك اليقين هو (الشك) فقط، سنصبح أمام السلسلة اللانهائية الآتية:
أنا على يقين بأنني أشك، وبالتالي أشك في ذلك (اليقين بأنني أشك)، وأنا متيقن بـ (أنني أشك في ذلك (اليقين بأنني أشك))، لذلك أنا أشك في (يقيني بـ (أنني أشك في ذلك (اليقين بأنني أشك))) …
حالة من التأرجح لا نهاية ولا قرار لها؛ يتقاذفنا قطبان قويان متباعدان (الشك) و (اليقين)، أو يتقاذفنا كائنان (الشيء) و (صورته الذهنية)، ما إن نقترب من واحد منهما حتى يبدأ بلفظنا باتجاه الآخر؛ حركة لولبية تصاعدية لا نهاية ولا قرار لها!
ألا تلاحظون بأننا أمام نظرية خطيرة وهامة في المعرفة، تختصر آلية تطور العلوم بمجملها؟!
ففي كل مرة نجد أنفسنا أمام قضيتين أو مفهومين أو أمرين، معرفة أحدهما تعتمد على معرفة الآخر؛ فإذا أعطيت الأول تقييماً محدداً فإن الثاني سيكون له تقييمٌ ما أيضاً، وسيتغير التقييم الثاني بتغير التقييم الأول، وكأننا أمام مجهولين قيمة أحدهما ترتبط بقيمة الآخر!
فما هو المعيار الذي يمكن الاعتماد عليه لفحص صحة العلاقة بينهما؟!
عندما كنت يافعاً حاولت أن أثبت بأن (الله) يتمثل في ثلاثة أقانيم، أو في ثلاث حالات، كما تؤكد على ذلك عقيدة الثالوث في المسيحية. انطلقت في البرهان بأنه للحقيقة ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: الشيء.
المستوى الثاني: صورة ذلك الشيء في الذهن.
المستوى الثالث: هو تصور جديد مبني على الجهد المعرفي الذي نقوم به حول ذلك الشيء و صورته الذهنية.
وبالتالي، فالمعرفة ثمرة هذا التردد بين (الشك واليقين)، فما أن يتحصّل يقين ما حتى يتسرب إليه الشك الذي يزول بيقين جديد … وهكذا دواليك. فحول أي شيء أو كائن تتشكل صورة ذهنية (ماذية) عند الإنسان (انظر مقالتي باللغة الروسية، أو اضغط هنا للاطلاع على الترجمة العربية لها). و نتيجة المحاكمات المنطقية والعقلية المستمرة ندخل في طور من الشك، وللخروج من حالة الشك هذه نقوم بتكوين صورة جديدة … الخ.
والنص القرآني نفسه يشير مباشرة إلى هذه القضية في قصة النبي ابراهيم:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)}
[سورة الأنعام: الآيات 76-78]
لا بد من أن هناك صورة ذهنية عند النبي ابراهيم عن (الله)، وهو يعيش حالة من القلق المعرفي (أو الشك) حوله؛ فوصف القرآن ابراهيم بكلمة (الموقنين) دليل على ان إبراهيم كان يعيش حالة من (الشك). جاءت رؤية الكوكب لتمنح ابراهيم بعض اليقين، الذي ما انفك وزال بأفول الكوكب، فتشكّل بعد ذلك يقين جديد عند ابراهيم برؤية القمر، إلا أن هذا اليقين تلاشى من جديد بأفول القمر، ليتشكل بعد ذلك يقين أقوى من الأول والثاني برؤية الشمس، إلا أن هذا اليقين الثالث يتلاشى من جديد بأفولها، واليقين الأخير الذي يتحصل عند ابراهيم هو حالة من (التسليم) تعكس عجزاً عن المعرفة، إلا أنّ هذه الحالة أزالت ذلك القلق والمعاناة الناجمَين عن طرح الأسئلة حول (الله).
وحول قصة ابراهيم، لابد من الإشارة إلى أن التأويل السابق لا يجانب الصواب بشكل من الأشكال؛ إذ أنه لا بد وأن يكون ابراهيم رأى الكواكب و القمر والشمس قبل ذلك، وبالتالي ليست هي كائنات جديدة عليه! فالغاية إذن من الآيات القرآنية هي تسكين ذلك الألم والمعاناة الناجمَين عن الحيرة والرغبة في المعرفة، وتحقيق شكل من أشكال السلام الداخلي فحسب!
قارب الشيخ أحمد محمد حيدر، في كتابه الحيرات، هذه المعاني في معرض مناقشته لموضوع تنزيه الله وتجسيمه؛ والمتأمل لهذه المناقشة سيجد نفسه أمام ثلاثة مكونات في هذه الرحلة المعرفية:
-الله – وهو الشيء الخارجي الذي نحاول معرفته،
-صورة ذهنية أولى – رسمها الشيخ أحمد حيدر انطلاقاً من الآية القرآنية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ – الشورى 11)، وتقتضي هذه الآية تنزيه الله عن كل شيء؛ فالله لا اسم و لا جسم و لا رسم و لا حدُ و لا عرض و لا ضد و لا ند و لا عدد و لا صورة … الخ،
وهنا يستدرك الشيخ حيدر قائلاً: على هذا المنوال نكون قد حصرنا الله في باب السلب، ولحل هذا الإشكال لا بد من إعادة الصفات المسلوبة إليه. وبذلك ننتقل إلى الصورة الذهنية الثانية.
-الصورة الذهنية الثانية – الله شيء لا كالأشياء، نور لا كالأنوار … الخ.
وهكذا، وفقاً للنموذج الذي رسمه الشيخ أحمد حيدر، نجد أنفسنا أمام الثلاثية نفسها التي تحدثنا عنها سابقاً:
الشيء، صورة أولى تقدم لنا بعض اليقين، حالة من الشك تنفي الصورة الأولى وتقودنا إلى تكوين صورة جديدة … وهكذا دواليك.
وهنا يبرز السؤال:
هل حالة (اليقين النفسي) كافية للقول بأنني وقعت على المعرفة الصحيحة، أو أنني وجدت الإجابات الصحيحة على تلك الأسئلة التي أقلقتني؟
المتصوفة حلّوا المسألة بالهروب منها، أو بالأحرى بالهروب إلى الأمام، أي بالتسليم بالعجز عن حلها، و ساروا في طريق في غاية الخطورة على الإنسان كفرد وعلى المجتمع أيضاً، إذ اعتبروا أن (المشاعر الإنسانية) هي الفيصل في هذه القضية، فـ (حالة النفس) هي المعيار للبت في الموضوع! وتكمن الخطورة الحقيقية في هذا المسار بضبط ما سميناه (حالة النفس)؛ إذ أن الكلمات لا تنفع هنا، والحالة آنفة الذكر يجب أن تُعاش؛ أي أن هناك مجموعة من المشاعر والانفعالات سيعيشها المرء عند مروره بهذه الحالة!
وللتوضيح سأضرب مثالاً!
في مصر، قديماً كان يقال: “مصر هبة النيل” نظراً لأن هذا النهر يبعث الحياة في هذه الأرض، فكانت الناس تعشق هذا النهر إلى درجة التقديس. لذلك كان يقال: هناك نيل آخر في السماء وعندما يفيض نيل السماء يهطل المطر فيفيض نيل الأرض. وأعتقد أن قدماء المصريين كانوا يعيشون حالة من الإيفوريا عند بناء هذا التصور، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد نيل في السماء، إذ أصبحنا نعرف آلية هطول المطر، ولو لم نكن نعرف آلية هطول المطر لبقيت هذه الفرضية حية حتى اليوم.
فـ (حالة النفس) تلك هي شكل من أشكال الشعور بالجمال أو الإلهام، ولكن حصول هذه الحالة لا يقدم لنا الكثير؛ و الأمثلة، في الواقع، على ذلك كثيرة جداً!
إذن لا بد من ضوابط أو معايير محددة لكي تكون (حالة النفس) هذه مفيدة معرفياً!
في هذا السياق، أستذكر محاضرة للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ألقاها في أحد مساجد مدينة دمشق، شرح فيها إحدى الحكم العطائية؛ وهي مجموعة من الحكم كتبها ابن عطاء الله السكندري. هنا سأقتبس ما أسعفتني ذاكرتي على تذكره، قال الشيخ البوطي في تلك المحاضرة:
(إذا رأيتم عبداً ينطق بما يخالف الشرع، فصدّقوه ولا تتبعوه، فهو سالك. فهذا العبد من شدة خوفه واستسلامه أمام الله بدأ يرى أشباحاً، وقد ينطق في هذه الحالة بما يخالف الشريعة)
فمعيار الحقيقة، وفقاً للإمام البوطي، هي نصوص الشريعة؛ وبالتالي فضوابط حالة النفس هنا ما تقدمه لنا الشريعة، وأي نتائج نصل إليها، انطلاقاً من تلك الحالة، ستصبح عديمة المعنى إذا كانت تخالف نصوص الشريعة الإسلامية.
في الواقع، إن المتتبع لتاريخ العلوم سيلاحظ أن النظرية الثلاثية اللولبية أو النظرية اللولبية ثلاثية الأركان في المعرفة، التي توصلنا إليها سابقاً، قد صبغت كل مراحل تطور العلم. فنحن دائماً أمام ثلاثة عناصر:
1-العالم الخارجي بكل ظواهره ومكوناته،
2-الصورة الأولى، أو النموذج الأول، أو المقاربة الأولى، أو النظرية الأولى المتولدة في ذهن الإنسان عن ذلك العالم،
3-الشك في تلك الصورة أو المقاربة أو النظرية الناجم عن (استحالة) معرفة العالم الخارجي، الذي سيدفعنا إلى توليد نموذج جديد عن العالم.
لقد وضعت كلمة (استحالة) ضمن قوسين لأسباب متعددة، سأحاول شرحها بما يأتي:
نحن، في دراستنا للطبيعة نراقب الظواهر التي تحدث حولنا، أو الفينومينولوجيا، ولكي نستطيع تفسير وفهم آلية حدوث هذه الظواهر نقوم بطرح مجموعة من الفرضيات(نموذج عقلي)، ومن ثم ننظر: هل حقيقةً تقود هذه إلى تلك الظواهر؟ فإن قادت إلى تفسيرها فهذا لا يعني أن تلك الفرضيات صحيحة، وليس بالضرورة أن تكون الطبيعة خاضعة أو تسير وفق الفرضيات التي أنتجها خيالنا. وحتى نستطيع الحكم بدقة يجب استنفاذ جميع الفرضيات الممكنة، التي قد يكون عددها لا نهائي ببساطة. من جهة أخرى، يجب استنفاذ جميع النتائج (الظواهر) المرتبطة بتلك الفرضيات والتأكد من أنها غير متناقضة حتى نقول أن تلك الفرضيات صحيحة أو أنها ترقى لمستوى النظرية الراسخة.
لذلك، حول أي نظرية يبقى السؤالان الآتيان مفتوحَين أمام الباحثين:
-هل الفرضيات التي تقوم عليها نظرية ما هي الوحيدة التي تؤدي إلى تفسير ظاهرة ما؟ أي هل النموذج العقلي الذي توصلنا إليه هو الوحيد؟
-وهل هناك نتائج أخرى للنظرية تخالف قياسات تجريبية دقيقة ومعروفة؟ أي هل يتناقض نموذجنا مع ظواهر أخرى لم نكتشفها أو سنكتشفها في المستقبل؟
وسيستمر العلم على هذه الحال من التأرجح بحثاً عن الموضوعية المطلقة أو الحقيقة المطلقة!
ثمة مسألة أخيرة، مرتبطة بآلية تطور العلوم الطبيعية، يجدر أن نختم مقالتنا بها، كما أنها ترتبط بشكل مباشر بالمفاهيم التي دار الحديث عنها في الفقرات السابقة.
من وجهة نظري إن المتابع لآلية تطور العلوم والمعارف سيلحظ أننا أمام متّجهي تطور:
آ-مُتَّجه ينطلق من المجرّدات إلى المتعيّنات from abstracts to concretes،
ب-ومُتَّجه ينطلق من المتعيّنات إلى المجرّدات from concretes to abstracts.
في الواقع، أنا تحاشيت، عن سابق قصد، استخدام كلمات مثل: حسّيات، محسوسات، ملموسات، مادّيات … للتعبير عن المتعيّنات، بالرغم من أن جميع هذه الترجمات تصلح لكلمة concretes؛ لأنه، في نظري، عملية انتاج العلم هي عملية عقلية بحتة، والعقل يربط بين صور الأشياء things والكائنات objects والكيانات entities وليس بين الأشياء والكائنات والكيانات ذاتها. لذلك فالمقصود بمتَّجَهي التطور آنفي الذكر هو الانتقال من التجريد الشديد إلى تجريد أقل وبالعكس؛ فهي كالحركة من البناء إلى التفكيك وبالعكس، أو الانتقال من القضايا الكلية إلى القضايا الأبسط وبالعكس.
السؤال، أيُّ الاتجاهين هو الأصحّ؟
في الواقع، هذا سؤال كبير، سنحاول التهرب من الإجابة عليه، حفظاً لماء الوجه؛ فأنا على يقين مطلق بأننا لو دخلنا هذا الباب فلن نخرج منه إلا بخُفَّي حُنَيِن. وأنا شخصياً، وفق خبرتي المتواضعة، إنتاج المعرفة والعلم هو حركة مستمرة في كلا الاتجاهين؛ وهذه الحركة نلحظها على مستوى تطور نظريات العلم الكبرى وعلى مستوى الفرد الواحد.
ولكن لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين هامتين في هذ الموضوع:
-يضعنا الانطلاق من المجرد إلى الملموس أمام بعض المطبّات التاريخية، ويجعلنا أسرى بعض المصطلحات العلمية التاريخية، التي ولّدها الإنسان في أطوار تطوره الفطرية، وهذه المصطلحات والمفاهيم قد تعيق التطور العلمي!
-هناك الكثير من الملموسات، كالنجوم والمجرات، التي لا يمكن بشكل من الأشكال إجراء دراسات مباشرة عليها، وهذا ما يجبرنا على تطبيق النظريات التي تحققنا منها في فضاء آخر غير فضاء تلك الملموسات، أي دراستها بشكل غير مباشر، ولهذه المنهجية الكثير من المحاذير!
ختاماً، بالرغم من أنه يمكن كتابة الكثير الكثير حول هذا الموضوع إلا أنني سأكتفي بهذا القدر من التحليل؛ فالغاية من هذه المقالة هي الإضاءة على بعض جوانب الموضوع فحسب، وسأكون في غاية السرور أن يشاركني القارئ الكريم التوسع في بعض القضايا والأفكار أو الأجابة على الأسئلة التي أفرزتها هذه المقالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً