بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
تزايد الاهتمام بمراكز الفكر والمؤسسات البحثيّة عالمياً بشكل كبير خلال القرن العشرين، وأصبحت تمثل دلالة هامة على تطور الدولة وتقييمها للبحث العلمي واستشرافها لآفاق المستقبل، كما أصبحت هذه المراكز مؤشراً للمنجزات الحضارية والنهضوية ورمزاً للتقدم وأحد مؤشراته في التنمية ورسم السياسات الداخلية والخارجية.
في عالمنا العربي؛ بدأت مراكز الفكر بالانتشار مع مطلع التسعينات، حيث تكاثرت بشكل ملحوظ في بعض الدول العربية، بعد أن اكتسبت مراكز الفكر في الولايات المتحدة الأمريكية خبرة واسعة ونجاحاً كبيراً في تحديد أولويات القضايا الكبرى للبلاد، وصار لها تأثير بشكل مباشر أو غير مباشر على مراكز صنع القرار.
تشكّل مراكز الفكر في المنطقة العربية جزءاً ضئيلاً من مجموع مراكز الفكر العالمية، وبنسبة 6% من العدد الإجمالي، أي ما يقارب 140 مركزاً، بينما تملك الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 2200 مركز بحث حسب آخر إحصاء لمراكز الفكر والذي يصدر دورياً عن جامعة بنسلفانيا بعنوان (مراكز الفكر والمجتمع المدني) الصادر سنة 2021، ما يؤكد على الأهمية البالغة لدور هذه المراكز في رسم وصنع وتوجيه السياسات العامة للدول الكبرى، خصوصاً في ظل عالم يعاني من أزمات متغيرة ومعقدة.
ما يجعل هذه المراكز ضرورة حتمية للمساهمة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كونها تتمتع بالمرونة التي لا تتمتع بها المؤسسات السياسية الرسمية، وهو الدور الذي لا يزال محتشماً في المنطقة العربية، أي لا تزال هذه المراكز ذات تأثير محدود نسبياً مقارنةً مع نظيرتها الغربية.
واقع مراكز الفكر والمؤسسات البحثية العربية:
تشير التقارير إلى أنّ غالبية مراكز الفكر والبحوث تتمركز في الأردن وفلسطين والمغرب ومصر، احتلت الأردن المركز الأول من حيث عدد المراكز الفكرية، استناداً إلى الاستطلاع بنسبة 31%. من بين هذه المراكز نجد على سبيل المثال (مركز الفينيق) للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية، (مركز الدراسات الاستراتيجية-الجامعة الأردنية)، (مركز ابن خلدون) للبحوث والدراسات، (مركز البديل) للدراسات والأبحاث، (مؤسسة الحوار للبناء والاعلام). تليها فلسطين في المرتبة الثانية بنسبة 19%، بحيث نجد مراكز ومؤسسات مثل مركز قياس للاستطلاعات والدراسات المسحية- قياس، مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية –شمس، مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية- المرصد.
أما المرتبة الثالثة، فكانت من نصيب المغرب ومصر بنسبة 13% لكلٍّ منهما على حدة، بحيث نجد تنوعاً في المراكز والمؤسسات الفكرية على سبيل المثال مركز باحثون للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ومعهد الدراسات الاجتماعية والإعلامية، وفي مصر نجد منتدى البدائل العربي للدراسات، المركز المصري للسياسات.
ثم في المرتبة الرابعة نجد تجمعاً للمراكز الفكرية بنسبة 6% من المجموع الكلي للمراكز المشاركة في الاستطلاع في كل من تونس والعراق وليبيا وموريتانيا.
يحدد التركيز الجغرافي للمراكز البحثية إلى حد ما، توجهها الموضوعي، ويوضح الاستطلاع، أنه في حين أن الغالبية العظمى من المراكز متعددة التخصصات بطبيعتها، إلا أن معظمها يركز على السياسات الاجتماعية والعامة، تليها القضايا السياسية والأمنية الحسّاسة، فيما يركّز عدد قليل من المراكز على القضايا المتعلقة بالسياسات المالية، العلوم والتكنولوجيا والبيئة.
إلا أنّ واقع المراكز الفكرية في الدول العربية يختلف عما هو عليه الأمر في الغرب، بسبب المعيقات والمشاكل التي تواجهها، كما أنها لم تحظَ بمكانها الحقيقي وبقي دور معظمها سطحياً وغير فاعل، ليس بسبب عجزها عن أداء هذا الدور، بل بسبب المشاكل التي تعانيها بحكم طبيعة الحياة السياسية العربية وطبيعة أنظمتها، وبعدها عن العمل المؤسسي المعمول به في الغرب.
بعض معيقات عمل مراكز البحث العربية:
•الافتقار للموضوعية والاستقلالية؛ حيث أن قيمة الأبحاث والدراسات تكمن في مدى موضوعيتها واستقلاليتها. الأمر الذي لا يتحقق دون هامش كبير من الحرية، بعيداً عن أي مؤثّرات جانبية.
•انعدام العمل المؤسسي المستقل والمناخ الديمقراطي؛ هناك قيود سياسية وأمنية مفروضة على عمل مراكز الفكر، نتيجة ارتباط أصحابها بإيديولوجيات وتيارات سياسية معيّنة أو ارتباطهم بجهات مموّلة خارجية.
•العشوائية في العمل، وضعف آليات التعاون والشراكة بين المراكز البحثية العربية ومؤسسات الدولة وخصوصاً مراكز صنع القرار، وعدم توفر قنوات اتصال وشبكة تنسيق بين المراكز العربية فيما بينها لنقل الخبرة والمعلومات.
•غياب استراتيجية عربية موحّدة توجّه حركة مراكز الفكر والدراسات والبحوث التي تنفّذها مراكز التفكير، بما يخدم أولويات التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في الدول العربية.
مفهوم القوى الناعمة وشمولها على مؤشر مراكز الفكر:
ارتبط مفهوم القوة الناعمة بالعالم الأمريكي جوزيف ناي، كمدخل للتأثير على الرأي العام وتشكيل وجهة نظر المجتمع الوطني والعالمي عبر استحداث أدوات أخرى سياسية وغير سياسية. فيرى أنّ القوة الناعمة تضاف إلى قوة الإكراه، لأن الطبيعة المعقّدة للمجتمعات ما بعد الصناعية تجعل القوة العسكرية غير كافية.
وتعد القوة الناعمة اليوم، مدخلاً مهماً لتحريك العلاقات والسياسات العالمية، وقد أشار جوزيف ناي إلى وجود ثلاثة مصادر رئيسية للقوة الناعمة:
-الثقافة وهي مجموع الممارسات التي تشكل مفهوم المجتمع.
-القيم السياسية ومدى تأثيرها .
-السياسات الخارجية وتعني البحث عن نشر العدالة الاجتماعية وتعني حفاظ الدولة على الشرعية.
نشر مركز usc center on public diplomacy بجامعة كاليفورنيا سنة 2020 مؤشّراً عالمياً لقياس القوى الناعمة، سُمّي بمؤشر القوى الناعمة الثلاثين، عبر اختبار جودة المؤسسات السياسية للبلد، ومدى جاذبيتها، وقوة شبكتها الدبلوماسية والسمعة العالمية لنظام التعليم العالي وجاذبية نموذجها الاقتصادي.
المُلاحظ؛ غياب أية دول عربية أو إفريقية فيما جاءت تركيا والمكسيك في المرتبتين 28 و29.
مقترحات لتجويد عمل مراكز الفكر والبحوث العربية لتتحول إلى قوى ناعمة مؤثرة:
-التمويل الكافي للمراكز، ودعم التعليم والرفع من ميزانيته، وهي أمور مرتبطة بالإصلاح السياسي، لنتفادى التمويل الأجنبي لبعض المراكز والشروط والمعيقات التي يشكلها.
-العمل على بلورة رؤية استراتيجية بعيدة المدى لكل المراكز لرفع إسهامها في خدمة المجتمع وصناعة القرار والسياسات الخارجية.
-فتح النقاشات الموسعة والأبحاث الميدانية وتمويلها لفهم الواقع وطريقة تناول القضايا المصيرية وتوجيه الرأي العام والإعلام خدمة لقضايا الوطن.
-عقد اتفاقيات بين المراكز العربية المختلفة لنقل الخبرات والتدريب المستمر لأطرها، وتوفير الجو الديمقراطي والشفاف في العمل والحرية في التعاطي مع الموضوعات المختلفة بدون حساسية.
-التواصل المستمر بين مراكز الفكر العربية ومؤسسات الدول لفرض جو من الاحترام والثقة المتبادلة خدمة للصالح العام.
-فتح المجال أمام الكفاءات الشابة وذوي الخبرة للالتحاق بهذه المراكز وعدم احتكارها من طرف فئة معينة أو مجموعة سياسية أو حزبية بعينها.
-دعم مراكز الفكر العربي بباحثين إعلاميين وصحافيين لهم القدرة على متابعة وفهم وتحليل البرامج الإخبارية ومواكبة الزحم المعلوماتي السريع على الشبكة العنكبوتية، وتحليله بشكل موضوعي وعلمي.
-انخراط مراكز الفكر والمؤسسات البحثية العربية في مشاريع بعيدة الأمد تخص الأمة العربية والإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً