بقلم الدكتور آصف ملحم*
المقولة الكاملة للعقاد: (إنَّكَ لا تَختار حينَ تحبّ ولا تحبُّ حينَ تختار، وإنَّنا مع القضاءِ والقدر حينَ نُولد وحينَ نحبّ وحينَ نموت، وإذْ يسألونكَ عن الحبّ قل: هو اندفاعُ روحٍ إلى روح، ويسألونك عن الرُّوح.. فماذا تقول؟ قل هيَ من أمرِ ربِّي.)
وضوحاً، لا يعرف العقاد ماهية الروح؛ فالآية القرآنية التي تنفي إمكانية معرفة الروح معروفة ومشهورة للجميع ومنذ زمن بعيد، والكثيرون لا يتجرؤون على مجرد الخوض في هكذا حديث! ومع ذلك، القرآن نفسه يتكلم قليلاً عن بعض خصائص (الروح)؛ فوفقاً للقرآن يمكن للروح أن تحل في الكائنات وتخرج منها وتتلقى الثواب و العقاب …الخ، ولكن هي كائنٌ عصيٌ على الفهم، وتقتصر معرفة كنهها على الله فقط! إلا أن القرآن لا يتكلم من قريب أو بعيد عن الحب، ومع ذلك ينسب العقاد الحب إلى هذا الشيء المجهول(الروح)، بل ويمنحها القدرة على الاندفاع إلى شيء مجهول آخر، معتبراً أن الاندفاع هو (الحب).
وبالتالي نحن أمام عدة تساؤلات:
هل يجوز أن نربط كائنين مجهولين تماماً (فنحن لدينا روحان) برابط مجهول (الحب أو الاندفاع) أيضاً؟
ولو حاولنا توسيع دائرة السؤال أكثر بإعادة طرحه بالصيغة التالية:
هل عملية الربط الذهني ممكنة بين الكائنات، بغض النظر عن كون وجودها ذهنياً كان أم حقيقياً، أو -حسب تعبير الفلاسفة – وجوداً داخلياً أو خارجياً؟
ومتى تكون عملية الربط العقلي (أو الذهني) بين كائنين صحيحة؟
في الواقع، وفق اعتقادي، عملية الربط ممكنة؛ إذ يستطيع الإنسان الربط بين الكائنات ذهنياً، ولكن ليس بالضّرورة أن تكون هي في الحقيقة مترابطةً!
فإذا كان وجود هذه الكائنات حقيقياً، وكانت مترابطة وفق العلاقة التي تصورها الإنسان، فهذا يعكس (معرفةً) مسبقةً بها، وإن لم تكن كذلك، فهذا يعكس جهلاً أو وهماً أو خرافة.
أما إذا كانت موجودة وجوداً ذهنياً مجرداً، فلا يمكننا البتّ بالقضية قبل التعرف على خصائص هذه الكائنات المجردة. فنحن نستطيع اختراع الكثير من الكائنات المجرّدة غير الموجودة في الواقع، كالنقطة والمستقيم والدائرة … الخ، ولكن لكي نفهم العلاقة بينها يجب أن نفهم خصائصها.
الحالة التي نحن بصددها هي كائنات تتمتع بالوجود الحقيقي الخارجي ولكنها مجهولة، ولدينا رابط مجهول أيضاً، فما الحل في مثل هذه الحالة؟ أعتقد أن الجواب واضح هو أنه لا يمكن الحديث عنها البتة!
لا بد من الإشارة إلى أننا أثرنا الأسئلة السابقة مفترضين أن الروح ليست مفهوماً concept، لأن المفاهيم هي تَمثُّلٌ عقليٌ mental representation فحسب. علاوة على ذلك، فضّلنا استخدام كلمة (كائن object) بدلاً من كلمة (شيء thing) في الإشارة إلى الروح؛ لأنه، أنطولوجياً، يمكن استخدامها في جميع المناسبات، سواء في حياتنا العادية اليومية أو في دراستنا للعلوم؛ في حين أن كلمة (شيء) فهي أكثر تَعييناً. أما الحب فاكتفيتُ بتسميته (رابطاً) دون الخوض في تفسير ماهية هذا (الرابط).
الآن، لو عدنا إلى الجزء الأول من مقولة العقاد، نلاحظ أنّه يؤكّد أنّ الحبّ هو شيء لا إرادي، ولا نملك إرادة التّقرير والاختيار فيه مطلقاً، فهو كالقضاء والقدر، أو كالولادة والموت! فالأرواح تتحاب، أو تندفع نحو بعضها، لسبب لا يرتبط بإرادة وتدبير الإنسان نفسه. من جهة أخرى، فإن استخدام العقاد لعبارة (قل هيَ من أمرِ ربِّي)، واستعانته بمفهوم القضاء والقدر، هي محاولة لإرجاع الحب إلى مصدر هذه الأرواح المتحابة وهو (الله)؛ وبالتالي فالحب، وفق نظرية العقاد، هو معطىً مقررٌ مسبقاً، وبالتالي لا خيار للإنسان في أن يحب أو لا يحب.
ولكن، إذا سلّمنا بأن الوقوع في الحب قد يحصل مصادفةً أو دون نيّة مسبقة؛ فهل هذا ينفي إمكانيّة حصوله بعد اختيار الشريك، أو عن سابق تصميم وتخطيط؟
أعتقد أنّ الجواب واضح، وهو بالنفي؛ إذ أنّ إمكانية حصول الحب دون اختيار أو تخطيط مسبق لا يقتضي نفي إمكانيّة حصوله بطريقة الاختيار؛ فمن الممكن أن تقول: أن أختار هذا الشخص ليكون حبيبي أو حبيبتي، والنتيجة واضحة وهي إما أن يظهر هذا الشعور أو لا يظهر!
وهنا يمكننا أن نستذكر القاعدة المنطقية البسيطة: إمكانية حدوث حادثة ما لا تنفي إمكانية عدم حدوثها.
قد يقول قائل: إن قول العقاد هو تقرير بأن الحب لا يتم إلا بهذه الطريقة، أي بطريقة عدم الاختيار وعدم التخطيط، أو بالمصادفة! في هذه الحالة، من حقنا أن نسأل: كيف استطاع العقاد الوصول إلى هذه النتيجة؟
بناءً على ما سبق، فإننا نعتقد أن تشبيه حصول هذا الشعور (أي الحب) بالقضاء والقدر والموت والولادة هو تشبيه غير موفق.
علاوةً على ذلك، ألا يقع العقاد في تناقض ذاتي؛ إذ كيف يؤكد جهله بأسباب الحب وفي نفس الوقت ينسب هذا الحب إلى الروح، المجهولة أيضاً؟!
أعتقد، عند هذا الحد، أننا استنفدنا جميع الأسئلة الممكنة على المستوى المنطقي، أي المستوى الذي ندرس فيه الترابط المنطقي بين القضايا المطروحة في نص ما. وبالرغم من رغبتي الشديدة في معالجة الموضوع في المستوي الماهوي essential plan، إلا أنني أدرك الصعوبات البالغة التي تواجهنا في تحديد ماهية الكائنات والمفاهيم التي يتضمنها النص؛ فالأسئلة حول: الله، الروح، الحب، الموت والولادة، القضاء والقدر، الجبر والتفويض هي من الأسئلة الكبرى في العلم والفلسفة؛ لذلك سأكتفي بالتعريج باقتضاب على تعريف الحب فقط، وسرد بعض خصائصه، نظراً لضرورته. وهكذا؛ فالحب، كما تقدمه معظم المراجع، هو: شعور معقد complex emotion يتألف من تجارب ذات أثر إيجابي، كالبهجة والسرور والسعادة و الإثارة الجنسية و اللذة و النشوة و الرضا. ولكن بالرغم من أن الأثر الإيجابي هو المسيطر في هذا النوع من الشعور، إلا أنه يوجد بعض الآثار السلبية، مثل: القلق، الخوف، الاضطراب، الغيرة، المشاحنة، الخجل، الشعور بالذنب وغيرها.
كما تؤكد العديد من الأدبيات بأن هذا الشعور غير منتظم من حيث بنية الأحاسيس feelings و نمط الكائن المتلقي لهذه الأحاسيس وطور العلاقة.
في الواقع، يوجد العديد من النظريات المقترحة للحب، ولكن أشهرها هي النظرية التي طورها، في عام 1986، عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبيرغ Robert Sternberg في معرض مناقشته للعلاقة ما بين الأشخاص. يأتي ذكر هذه النظرية في المراجع المتخصّصة بصيغ مختلفة: النظرية ثلاثية المركبات للحب three-component theory of love، أو نظرية مثلث الحب triangular theory of love، أو المفهوم ثلاثي العوامل للحب three-factor conception of love. وتفترض هذه النظرية أن للحب ثلاثة مركبات: الألفة، الشغف (الرومانسي والجنسي)، الالتزام.
وقد مثّل الفيلسوف والكاتب التشيلي Dario Salas Sommer، في كتابه علم الحب، تطور الحب باللولب، وسماه لولب الحب love spiral؛ فالحب يمر بمستويات عدة: المستوى الجنسي، المستوى الشعوري، المستوى المعرفي، المستوى العقلي، المستوى الروحي.
عاش العقاد بين عامي 1889-1964، و إنه لأمر عسير جداً التحقيق فيما إذا كان قد اطّلع على تلك النظريات التي أفرزها علم النفس عن الحب أو لا، لذلك سنحاول الآن معالجة الموضوع على المستوى اللغوي-النفسي Psycho-linguistic plan ؛ ففي الكثير من الأحيان لا يهم شكل ودلالة بعض الألفاظ بقدر ما يهم الأثر النفسي المتولّد عند قراءتها أو سماعها أو كتابتها. وتعد عوامل التربية والتعليم السبب الأساسي في اكتساب الألفاظ أثراً نفسياً وجمالياً معيناً؛ فلو سمع عربي أو نطق أو قرأ، مثلاً، كلمة (صهيوني أو صهيونية) فإنها ستثير مشاعر سلبية عنده؛ لأنه تربّى على ربطها بالجرائم التي تقوم بها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، في حين أن هذه الكلمة نفسها ستثير مشاعر إيجابية عند أشخاص آخرين لم يتلقوا التربية نفسها؛ فلقد كان فلاديمير جابوتينسكي (أو زئيف جابوتينسكي) يتغنّى بالصهيونية في كتاباته وخطاباته، وعلى هذا المنوال يسير خلفه بنيامين نتنياهو الآن. والحقيقة، إنّ آلية اكتساب الألفاظ لهذه المفاعيل النفسية تشبه إلى حد بعيد آلية المنعكس الشرطي أو الاستجابة الشرطية التي تحدث عنها الطبيب الروسي إيڤان باڤلوڤ.
من نافلة القول، جميع ثقافات وفلسفات وأديان العالم ترفع من شأن (الروح)؛ فهي، وفق اعتقاد الجميع، كائن لطيف غير مادي وغير ملموس، كما أنها الكائن الأقدس والأشرف في الإنسان، وعادةً ما يتم نسبة المشاعر الجميلة والرقيقة إليها. والحب هو رمز للفضائل الإنسانية والإيثار والغيرية ومحاولة العمل على سعادة الآخرين وتحقيق الخير لهم. بالتالي، فإننا نعتقد بأن العقاد – نظراً للمشاعر الإيجابية التي يولدها الحب – قام بنسبة هذا الأثر الجميل إلى كائن نفيس وشريف وهو (الروح).
ثمة ملاحظة أخيرة حول هذه النقطة، في الكثير من الثقافات يتم التمييز بين (النفس) و(الروح)، وقد تكون نسبة الحب إلى (الروح) وليس إلى (النفس) تمييزاً بين نوعين من الحب: الحب العذري، والحب الشهواني.
ختاماً، لقد حاولت في هذه المقالة استجلاء جميع الجوانب المرتبطة بمقولة العقاد، واستثارة أكبر عدد من الأسئلة حولها، ساعياً بكل جهد للإجابة عليها، فإن وُفِقت في ذلك فهذا هو المُبتغى، وإن قصّرت فإن لي في القارئ الكريم عزاء في استكمال النقص وبلوغ الهدف المراد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً